د.عبد الله المدني : صالح كامل.. من محل للكشافة إلى إمبراطورية أعمال
في 18 مايو 2020 توفي بمدينة جدة الشيخ صالح كامل عن عمر ناهز 79 عاماً، وبذلك خسرت السعودية قامة من قاماتها الإعلامية والاقتصادية والمصرفية، ورجلاً عبقرياً أسهم في نهضتها وتنميتها.
لم يكن مشواره في الحياة مزروعاً بالورود، ولم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لكنه تمكن بعصامية فريدة وجهد دؤوب وروح مجبولة على الكفاح والمغامرة أن يؤسس في زمن قصير نسبياً إمبراطورية إعلامية وأخرى مصرفية، فانتقل بذلك من حال إلى حال، دون أن يتملكه غرور الناجحين أو يضعف شغفه بالعمل والإنتاج والتفوق.
ولد صالح عبد الله كامل سندي بمكة عام 1941م لأسرة كانت تعمل في الطوافة، ولأب كان يعمل بديوان مجلس الوزراء. ودرس المرحلتين الابتدائية والمتوسطة بمدارس مكة والطائف، والثانوية بجدة، لينتقل منها إلى الرياض للالتحاق بجامعة الملك سعود التي منحته بكالوريوس التجارة عام 1963م.
أما لماذا اختار الالتحاق بكلية التجارة تحديداً؟ فلأن التجارة ملكت عقله ووجدانه منذ طفولته، فظلت فكرة العمل التجاري والاستثمار تنمو وتكبر معه حتى تحولت إلى موهبة يجيد أسرارها. وهناك شواهد كثيرة تدعم هذا الكلام، ففي مرحلة طفولته مثلاً كان يصنع من عظم الخراف أدوات لعبة شعبية تسمى «الكبوش» ويبيعها لزملائه وأقرانه. وفي سنوات دراسته المتوسطة والثانوية اتجه إلى تحرير وإنتاج المجلات والصحف المدرسية وبيعها للطلاب. وفي الفترة ذاتها راح يستغل موقعه في الحركة الكشفية المدرسية تجارياً، إذ واتته فكرة استيراد ملابس رياضية، فأخذ من والده 3000 ريال، وسافر إلى لبنان، واشترى بها بدلاً وكتباً كشفية وصافرات وسكاكين وجلبها معه إلى السعودية، ثم راح يضع بضاعته في حقيبة ويطوف بها على مدارس جدة، قبل أن يقرر فتح محل دائم لها تحت اسم «بيت الكشافة». وفي المرحلة الجامعية حصل على إذن لتأسيس مطبعة لنسخ مذكرات الطلبة وبيعها، واستمر يعمل في مطبعته الصغيرة ويدخر حتى بعد تخرّجه.
بعد تخرجه في كلية التجارة التحق للعمل بالقطاع الحكومي، فتنقل كموظف في عدد من وزارات الدولة، لكن فكره ظل مشدوداً إلى العمل التجاري، بدليل أنه أثناء فترة عمله الحكومي، لاحظ قلة عدد المطاعم والمطابخ في الرياض، فبادر إلى افتتاح مطعم تحت اسم «مطبخ الملز الشرقي»، واستقدم له طباخاً ماهراً كان يعمل لدى عائلته بجدة. وهكذا صار وقته موزعاً بين عمله الحكومي صباحاً، ومطبعته الجامعية ومطبخه مساءً.
هناك نقطتا تحول رئيستان في حياته شكلتا بداية صعوده الأسطوري، كانت الأولى حينما استثمر عقليته التجارية في دخول مناقصة طرحتها وزارة المواصلات لنقل وتوزيع البريد الداخلي (البريد الطوّاف)، وعن تجربته تلك قال إنه ادخر من مطبعته ومطبخه 300 ألف ريال استثمرها كلها في مشروع البريد الطوّاف، حيث اشترى 30 سيارة جيب تويوتا بسعر 12 ألف ريال لكل منها، وبدأ العمل، مضيفاً: «وقبلها قمت بعمل تجربة بنفسي، إذ طفت على جميع مدن وقرى السعودية، وقست المسافة بين كل منطقة وأخرى، وأصبحت قادراً حتى على تحديد كمية الوقود التي تحتاجها كل سيارة لتصل إلى هدفها. ونجح المشروع الذي استمر لمدة 15 عاماً».
نجاحه في مشروع البريد الطواف أغراه للدخول في مناقصات حكومية أخرى، فجاءت نقطة التحول الثانية في حياته. وملخص القصة أنه دخل مناقصة وزارة الدفاع والطيران لبناء مدرسة الدفاع الجوي بجدة، وفاز بها لأنه قدم عرضاً بمبلغ 15 مليون دولار، بينما قدم منافسه (شركة «نستيول» الأمريكية) عرضاً بـ 155 مليون دولار. ولأنه أثبت كفاءته والتزامه بشروط العقد فقد تمت ترسية مناقصات مشاريع أخرى عليه، مثل صيانة مواقع الدفاع الجوي في جميع أنحاء السعودية، وصيانة 22 مطاراً مدنياً.
وسرعان ما فطن الرجل إلى ضرورة الاستعانة بالخبرات العالمية كي لا تتأثر سمعته سلباً أمام الجهات الحكومية، لذا نراه يدخل في شراكة مع «إفكو» الأمريكية المتخصصة في صيانة المطارات لتأسيس ما عرف بـ«إفكو دلة»، التي صارت من أكبر مقاولي الصيانة العالميين في السبعينيات والثمانينيات.
1969
بعد ذلك أقدم صاحبنا في عام 1969 على تأسيس «مجموعة دلة البركة»، وهي شركة توسعت كثيراً وتنوعت مجالات أنشطتها واستثماراتها ما بين الإعلام والعقارات والسياحة والنقل والمقاولات والصناعات الغذائية والأعمال المصرفية والرعاية الصحية، واستطاعت أن تبرز كواحدة من أشهر شركات الاستثمار السعودية، وأن تحقق ثروة هائلة من خلال تعاقداتها مع الدولة. ومن الطرائف أن البعض راح يسخر من اسم «دلة» لغرابته، قبل أن يصبح الاسم رديفاً للنجاح والريادة. والحقيقة أن اختيار صالح كامل هذا الاسم كان من باب اعتزازه ببيئته الحجازية، وتخليداً لذكرى جدته التي كانت تدلل والده عبدالله بهذا الاسم كعادة بعض أهل الحجاز. بذكائه الوقاد وموهبته الاستثمارية دخل صالح كامل بعد ذلك مجال الإعلام، بل كان واحداً من أوائل المستثمرين السعوديين فيه، ففي مطلع التسعينيات دخل في شراكة مع الشيخ وليد الإبراهيم لتأسيس قناة MBC في لندن، لكنه باع حصته فيها وأنشأ عام 1993 شبكة قنوات تلفزيونية متخصصة تحت اسم ART، التي راحت تبث من روما على مدار الساعة (قبل أن يتم تحويلها إلى قنوات مشفرة عام 1996 وتتوزع مكاتبها ما بين الأردن ومصر ولبنان).
أرباح هائلة
والحقيقة أن ART حققت نجاحاً متميزاً في بداياتها مع أرباح سنوية هائلة وملايين المشاهدين، لكن بريقها راح يخفت تدريجياً، خصوصاً بعد أن تخلت عن قناتها الرياضية الأهم لصالح قناة الجزيرة القطرية في صفقة مليارية عام 2009. وقد اعترف صالح كامل بنفسه بخطأ تلك الخطوة، إذ قال في حوار تلفزيوني: «إن ترك مجال الإعلام الرياضي كان غلطة، وقد خسرت فيه الكثير». ومن ضمن مشاريعه الإعلامية الأخرى قيامه بتأسيس دار عكاظ للنشر والتوزيع، ومساهمته في إصدار جريدة الوطن السعودية، وإطلاقه قناة «اقرأ» الإسلامية. ومن الاستثمار في الإعلام انتقل صالح كامل إلى الاستثمار في المجال المصرفي، إذ أسس بنكاً برأس مال بلغ ملياري دولار، وتبنى فكرة المصارف الإسلامية، وكان من أوائل من اشتغل عليها وخاض أنشطتها وترأس العديد من هيئاتها، بل نال بسببها عدداً من الجوائز والتكريمات.