رأي في الحدث

عبدالله الأيوبي : المنتصر خسران بين روسيا وأوكرانيا

ظاهريا‭ ‬تبدو‭ ‬الفزعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬والأوروبية‭ ‬الشاملة‭ ‬لتقديم‭ ‬مختلف‭ ‬أنواع‭ ‬المساعدات،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬العسكرية‭ ‬المتطورة،‭ ‬إلى‭ ‬أوكرانيا‭ ‬‮«‬لدعمها‮»‬‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬القوات‭ ‬الروسية‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭  ‬إلى‭ ‬الأراضي‭ ‬الأوكرانية‭ ‬تنفيذا‭ ‬لمهمة‭ ‬عسكرية‭ ‬خاصة،‭  ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬أعلنته‭ ‬القيادة‭ ‬الروسية‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬تبدو‭ ‬هذه‭ ‬الفزعة‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬البعض‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬موقف‭ ‬غربي‭ ‬‮«‬مبدئي‮»‬‭ ‬تجاه‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬ذهبت‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬موقفها‭ ‬من‭ ‬التطورات‭ ‬العسكرية‭ ‬الأخيرة‭ ‬إذ‭ ‬لجأت‭ ‬إلى‭ ‬حزم‭ ‬من‭ ‬العقوبات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬تدمير‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الروسي،‭ ‬بحسب‭ ‬الهدف‭ ‬الذي‭ ‬أعلنه‭ ‬القادة‭ ‬الأوربيون‭ ‬وهم‭ ‬يقرون‭ ‬هذه‭ ‬الحزم‭ ‬العقابية‭.‬

‮«‬الدفاع‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أوكرانيا‭ ‬و«مساعدتها‮»‬‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬روسيا‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬عنوان‭ ‬لهدف‭ ‬آخر،‭ ‬يمثل‭ ‬قيمة‭ ‬استراتيجية‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬بقيادة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬فمصلحة‭ ‬الشعب‭ ‬الأوكراني‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬أي‭ ‬قيمة‭ ‬لدى‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬فهناك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬اكتوت‭ ‬بنيران‭ ‬الممارسات‭ ‬العدوانية‭ ‬لهذه‭ ‬الدول،‭ ‬والأمثلة‭ ‬الحاضرة‭ ‬أمامنا‭ ‬في‭ ‬ساحتنا‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تخطئ‭ ‬ذلك،‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬الذي‭ ‬دمرته‭ ‬آلة‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكية‭ ‬مرورا‭ ‬بسوريا‭ ‬وليبيا‭ ‬والقائمة‭ ‬ليس‭ ‬بها‭ ‬أي‭ ‬نقطة‭ ‬نهاية‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

هذه‭ ‬الدول‭ ‬تبحث‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬مصالحها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬لمصالح‭ ‬الآخرين‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬يقبل‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬ركب‭ ‬سياستهم‭ ‬العدوانية،‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬جانب،‭ ‬ومن‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الدعم‮»‬‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والعسكري‭ ‬غير‭ ‬المسبوق،‭ ‬هدفه‭ ‬الأساسي‭ ‬أولا‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬هو‭ ‬تعطيل‭ ‬الانطلاقة‭ ‬الروسية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بعد‭ ‬المرض‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬روسيا‭ ‬بعيد‭ ‬تفكك‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬وتسلم‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي‭ ‬السابق‭ ‬الضعيف‭ ‬بوريس‭ ‬يلتسين‭ ‬زمام‭ ‬القيادة،‭ ‬وهو‭ ‬بالمناسبة‭ ‬أحد‭ ‬المهندسين‭ ‬الرئيسيين‭ ‬الذين‭ ‬هندسوا‭ ‬ونفذوا‭ ‬عملية‭ ‬تفكيك‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬وفتح‭ ‬جميع‭ ‬المنشآت‭ ‬السوفيتية‭ ‬السابقة‭ ‬أمام‭ ‬رجال‭ ‬الاستخبارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والغربية‭.‬

الدول‭ ‬الغربية‭ ‬استخدمت‭ ‬الطعم‭ ‬الأوكراني‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬استراتيجية‭ ‬بعيدة‭ ‬المدى‭ ‬فشغلت‭ ‬آلتها‭ ‬الإعلامية‭ ‬الجبارة‭ ‬لتأجيج‭ ‬الأوضاع‭ ‬بين‭ ‬روسيا‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تشويه‭ ‬الصورة‭ ‬الروسية‭ ‬أمام‭ ‬شعوب‭ ‬القارة‭ ‬الأوروبية‭ ‬والشعوب‭ ‬الأخرى،‭ ‬فقدمت‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬دولة‭ ‬عدوانية‭ ‬تجاه‭ ‬جيرانها‭ ‬الصغار،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬بكلمة‭ ‬واحدة‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬وصول‭ ‬الأوضاع‭ ‬بين‭ ‬روسيا‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الصدام‭ ‬العسكري‭ ‬بين‭ ‬أشقاء‭ ‬الأمس،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬الشقيقين‭ ‬الجارين،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تتطلبه‭ ‬الأهداف‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للدول‭ ‬الغربية‭.‬

فالدول‭ ‬الغربية‭ ‬تعرف‭ ‬جيدا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬من‭ ‬مساعدات‭ ‬عسكرية‭ ‬واقتصادية‭ ‬لأوكرانيا‭ ‬لن‭ ‬يقلب‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬مع‭ ‬روسيا‭ ‬لصالح‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬المساعدات‮»‬‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تطيل‭ ‬أمد‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الجارين‭ ‬الشقيقين،‭ ‬وأن‭ ‬تؤثر‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬على‭ ‬سمعة‭ ‬روسيا‭ ‬الدولية،‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬إلى‭ ‬تفاقم‭ ‬الأوضاع‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وسقوط‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الضحايا‭ ‬المدنيين،‭ ‬فهذه‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخدم‭ ‬لا‭ ‬روسيا‭ ‬ولا‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أي‭ ‬نتائج‭ ‬تسفر‭ ‬عنها‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬انتصارا‭ ‬لأي‭ ‬من‭ ‬البلدين‭.‬

فالتاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬وما‭ ‬يعتري‭ ‬العلاقات‭ ‬الثقافية‭ ‬والروحية‭ ‬والدينية‭ ‬بين‭ ‬الشعبين‭ ‬من‭ ‬روابط‭ ‬وتداخل‭ ‬وتلاقح،‭ ‬كلها‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬مصالح‭ ‬الشعبين‭ ‬الشقيقين‭ ‬متداخلة‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬مصلحة‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الشعبين‭ ‬والبلدين‭ ‬فصلهما‭ ‬عن‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض؛‭ ‬لأن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النتيجة‭ ‬لن‭ ‬تخدم‭ ‬أيًّا‭ ‬منهما‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الفوائد‭ ‬أو‭ ‬المكاسب‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يعتقد‭ ‬البعض‭ ‬أنها‭ ‬تحققت‭ ‬لصالح‭ ‬هذا‭ ‬الطرف‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬ظاهرية،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬الشعبين‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد،‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬نجحت‭ ‬بعض‭ ‬الأطراف‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬دق‭ ‬إسفين‭ ‬بين‭ ‬الشعبين‭.‬

دق‭ ‬الإسفين‭ ‬هذه،‭ ‬بالمناسبة‭ ‬هو‭ ‬هدف‭ ‬قائم‭ ‬لعبت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيقه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬أي‭ ‬جر‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬جانبها‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬جار‭ ‬معاد‭ ‬لجاره‭ ‬وشقيقه‭ ‬الأكبر،‭ ‬وحققت‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسعى‭ ‬خطوات‭ ‬عملية‭ ‬ملموسة،‭ ‬حيث‭ ‬عبر‭ ‬دعمها‭ ‬بل‭ ‬واحتضانها‭ ‬للانقلاب‭ ‬العسكري‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬المنتخبة‭ ‬في‭ ‬كييف‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬وهي‭ ‬السنة‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬فيها‭ ‬العلاقات‭ ‬الروسية‭ ‬الأوكرانية‭ ‬منعطفا‭ ‬نوعيا‭ ‬خطيرا‭ ‬تصدره‭ ‬الاستفتاء‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬أجري‭ ‬في‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬القرم،‭ ‬والذي‭ ‬جاءت‭ ‬نتائجه‭ ‬لصالح‭ ‬عودة‭ ‬القرم‭ ‬إلى‭ ‬قوام‭ ‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬وبنسبة‭ ‬تصويت‭ ‬عالية‭ ‬جدا‭. ‬

مما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬التطورات‭ ‬الخطيرة‭ ‬التي‭ ‬تشهدها‭ ‬العلاقات‭ ‬الروسية‭ ‬الأوكرانية‭ ‬ستترك‭ ‬أثرا‭ ‬طويلا‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬العلاقات‭ ‬المستقبلية‭ ‬بين‭ ‬البلدين،‭ ‬وستنعكس‭ ‬حتما‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الشعبين،‭ ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬تغيرات‭ ‬جيوسياسية‭ ‬ستطرأ‭ ‬على‭ ‬المنطقة،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬القريب‭ ‬أو‭ ‬البعيد،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬السموم‭ ‬الغربية‭ ‬لن‭ ‬تختفي‭ ‬من‭ ‬المناخ‭ ‬السائد‭ ‬حاليا‭ ‬ومستقبليا‭ ‬كذلك‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى