د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد : الاستعداد لرمضان
سيهلُّ علينا شهر رمضان المبارك بعد أيام مرحبين به، ومباركين لمن يدرك هذا الشهر الكريم بنية صالحة لجعله موسم دهره استغلالاً لأيامه ولياليه في طاعة الرحمن، والعمل بما يقرِّبه لمناداة باب الريان، ودخول دار الرضوان، الذي أُعد لأهل الإحسان، فمرحباً بهذا الشهر الكريم، ونعم المجيء جاء!
إنه يجيئنا هذا العام، وقد أوشكت جائحة كورونا – الثقيلة البغيضة – أن تولي الأدبار، غير مأسوف عليها؛ ليعود هذا الشهر مليئاً بأكاليل الفرحة والابتهاج، النفوس مقبلة عليه بمحبة ونية صالحة لصيامه وقيامه إيماناً واحتساباً، ونية ختم القرآن فيه ختمة بعد ختمة، ونية إخراج الزكوات والصدقات، ونية صلة الأرحام، والمسامحة بين الأنام، وتتهيأ المجالس لزائريها، وتُعد العدة لوجبات الإفطار لتعم المساجد والأماكن الخاصة، ابتغاء وجه الله تعالى.
كل هذا وغيره هو ما يعده الناس لشهر رمضان المبارك، وهو استعداد طيب وجميل، والأجمل منه هو تذكر أن هذا الشهر هو جزء من عمر الإنسان، بل هو أكرم أجزائه وأفضل أيامه ولياليه، لأنه شهر يتزود فيه المرء لحياته القادمة، التي يقول عندها المفرط: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، فالحياة الحقيقية هي الدار الآخرة التي يقول عنها ربنا جل شأنه: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}، أي هي الحياة الدائمة الباقية، بخلاف الحياة الدنيا التي قال عنها سبحانه قبل ذلك: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}، والكل يعرف معنى اللهو واللعب، أنه سريع الزوال والتغير، فمهما طال عمر الإنسان في هذه الحياة فما هو إلا كمن لبث فيها عشية أو ضحاها، أو كمن دخل باباً وخرج من آخر، فهو يقطع مسافات سفره منها من أول ساعة دخل فيها، فهو يعد الساعات لملاقاة الممات، كما أنها لا تصفو ولا تستقر لإنسان، بل هي مشوبة بالأحزان والأكدار والأسقام.
فما تدوم على حال تكون بها *** كما تلون في أثوابها الغولُ.
كما قال كعب بن زهير في بردته المشهورة.
والذي يمكن أن يستفاد من هذه الحياة هو التزود لتلك الدار التي بها القرار، وذلك بما أمر الله تعالى بالتزود به، وهو تقواه جل جلاله في كل حال، ومراقبته في السر والعلن، كما قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}، فالآية الكريمة تقول بصريح لفظها: إنك يا عبدالله مسافر، والمسافر يحتاج زاداً يعيش به في سفره، وإلا تعثر وتبعثر، ولربما كان يتمنى أن يكون مع أولئك الذين تزودوا، ولكن لم يعمل بعملهم، فكانت مجرد أماني، ولذلك عوتب بقول بعضهم:
أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زادٌ وأنت بغير زاد؟!
إن هذا الشهر الكريم الذي سيقدم علينا هو شهر التزود للمعاد وملاقاة رب العباد، الذي أنعم علينا بمَدد العمر، ومدد الصحة لنجعل من هذا الشهر خاصة وسائر أوقاتنا عامة مضماراً للتسابق للخيرات، والمسارعة لما يرضي رب البريات، من فنون الطاعات وأصناف القربات، فليكن استعدادنا لذلك بنية صالحة، فإننا إن صدقنا الله تعالى بهذه النية فلن نخيب أبداً، فإن ربنا سبحانه عند حسن ظن عبده به، ويعطيه على قدر نيته، حتى ولو لم يُقدره على العمل لعجزٍ أو موافاة أجل؛ فإن أجر العمل الذي كان قد نواه يُعطاه، فنِيَّة المرء خير من عمله، كما رُوي، وقد صح في الحديث «إن بالمدينة أقواماً، ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم»، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة ؟! قال: «وهم بالمدينة، حبسَهم العذر»، وصح أيضاً «إذا مرض العبد، أو سافر، كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً»، ذلك أن ربنا جل في علاه يعلم من عبده إن نوى فعل الخير، فلما لم يُقدره عليه لم يحرمه من عطائه، ومن هنا قال أهل العلم: إن المؤمن ينال الثواب الأبدي في الآخرة لِما كان عليه من نية صالحة لفعل الخير ما دام حياً، وغير المؤمن يخلد في الجزاء لنيته السيئة في الشرك أو فعل المعاصي ما دام حياً، فكان عطاؤه سبحانه لعبده المؤمن فضلاً منه جل شأنه، وجزاؤه لغير المؤمن عدلاً منه سبحانه.
فاللهَ نسأل أن يصلح نياتنا للعمل فيما يرضي ربنا دائماً، وفي هذا الشهر على وجه الخصوص، فإن نية المرء هي مطيته لما يريد من ثواب أو غيره.