اسم في الأخبار

عبدالله المدني : عبدالله السليمان الحمدان.. أول وزراء الملك عبدالعزيز وأقربهم إليه

قبل بضع سنوات كان المار بشارع القبة في مكة المكرمه وهو متجه نحو «حي جرول» التاريخي لابد وأن يقع بصره على قصرين كبيرين قديمين شيدا وفقًا لفنون العمارة الإسلامية التي ترتكز على الأقواس والأعمدة والرواشن والتيجان المزخرفة. فما هي قصة هذين القصرين؟ ومن هم أصحابهما؟

طبقًا لما ورد في تحقيق لصحيفة «الرياض الاقتصادي» (11/‏11/‏2013) فإن القصرين تم بناؤهما في عام 1347 للهجرة المصادف لعام 1927 للميلاد على يد مقاول شهير كان يدعى «المعلم وزرة». وتضيف الصحيفة أنّ القصر الأول تم تشييده على مساحة 1400 متر مربع ليكون سكنًا لأول وزير في الدولة السعودية الحديثة وأكثر الأشخاص قربًا إلى الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه. أما القصر الثاني فقد تم تشييده على مساحة ألف متر مربع ليكون مسكناً لشقيق الوزير ومساعده. ومن المعلومات التي أوردتها الصحيفة أنه بعد انتقال الوزير من مكة تم تأجير قصره لوزارة الداخلية السعودية، ثم صار مقراً لمحاكم مكة المكرمة، ثم أصبح مقرًا للمكتبة العامة التابعة للحرم المكي قبل أنْ يـُباع بمبلغ مائة مليون ريال في عام 2011. أما القصر الثاني فقد تحول، بعد أنْ هجره صاحبه، إلى مقر لمدرسة ابتدائية للبنات لبعض الوقت. وبعد أن انتقلت المدرسة إلى موقع جديد في تسعينات القرن الماضي، بقي القصر مهجورًا، فتعالت الأصوات المطالبة بضرورة حماية القصرين معًا وتحويلهما إلى معلم سياحي، وهو ما لم يحدث لأنهما أزيلا ضمن مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتوسعة الحرم المكي.

لا يهمنا هنا القصرين، بقدر ما يهمنا سيرة وتاريخ صاحب القصر الأول وهو الشيخ عبدالله السليمان الذي لعب دورًا حيويًا في بدايات تأسيس ونهوض المملكة العربية السعودية، على نحو ما سنتبين لاحقاً. 

ولد عبدالله السليمان الحمدان العنزي النجدي في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم في عام 1884 ودرس في كتاتيبها على يد الشيخين «عبدالعزيز بن مانع» و«صالح بن عثمان القاضي»، حيث زامل في تلك الكتاتيب محمد بن عبدالعزيز المانع، الذي صار لاحقًا أول مدير للمعارف السعودية، وعمل في البحرين في مجال مكافحة التنصير في عام 1913، وولاه حاكم قطر الأسبق الشيخ عبدالله بن قاسم آل ثاني القضاء والخطابة والتدريس في بلاده لمدة 23 عامًا. 

ينتسب السليمان لأسرة الحمدان الرسيس في القصيم، وهم من الدهامشة من عنزة، وهو إبن«لعائلة متوسطة في النسب، فقيرة في المال» طبقًا لما كتبه بنفسه في خطاب موجه إلى مصطفى غيث مندوب جريدتي «الزمان»، و«لو جورنال ديجيبت» المصريتين الذي طلب منه أن يكتب شيئا عن حياته للنشر، فاستجاب السليمان متحدثا للمرة الأولى عن جوانب من حياته ورحلاته طلبًا للعلم والتجارة والخبرة. والمادة التي كتبها أعادت جريدة «البلاد» السعودية نشرها في 29/‏11/‏1950 ثم قام الباحث والمؤرخ السعودي الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي تضمين نصها في الصفحات (209 ـ 214) من كتابه الممتع «معتمدو الملك عبدالعزيز ووكلاؤه في الخارج» الصادر عن دار الانتشار العربي ببيروت في عام 2015.

دعونا نقرأ شيئًا مما كتبه عن سيرته الذاتية. يقول السليمان إنه قضى طفولته في مسقط رأسه إلى أن أرسله والده إلى شقيقه الأكبر محمد في البصرة. وكان الأخير قد ترك عنيزة إلى هناك هربًا من حكامها آنذاك من آل الرشيد الذين كانوا على علم بولائه لخصمهم اللدود عبدالعزيز آل سعود. ويضيف أنه على الرغم من اهتمام شقيقه به بعد وصوله سالمًا إلى العراق، فإن صحته اعتلت بسبب طقس البصرة الرطب غير الملائم له ولأمثاله من أبناء الصحراء، الأمر الذي جعل شقيقه يرسله إلى «بمبي» للعمل لدى تاجر نجدي من عنيزة مقيم بالهند هو الشيخ عبدالله بن محمد الفوزان.

وهكذا سافر السليمان شابًا إلى الهند وقضى سنوات في رعاية الفوزان الذي «أحلني من نفسه محل أولاده، وكان ينبهني ويهديني إلى الصواب دائماً، فكان عمله هذا حافزًا لي على الجد والنشاط والتيقظ»، مضيفًا: «لم تمضِ عليّ في هذه الحياة العملية سنتان حتى كنتُ موضع ثقته الكبرى، فسلمني محل تجارته بدفاتره وخزينته وسلعه، ووكل إلىّ إدارته». 

من هذا العمل استطاع السليمان أن يتعلم الانجليزية والكثير من فنون التجارة والمال، وأن يرتبط بعلاقات وطيدة مع التجار النجديين والخليجيين المقيمين بالهند مثل البسام والقاضي والفضل والإبراهيم والشايع والمرزوق، بل تمكن أيضا من إدخار بعض المال. في هذه الأثناء اكتشف أن راتبه لا يكفي للوفاء بحاجاته وحاجات أخيه الأصغر حمد الذي جلبه إلى الهند ليكون تحت رعايته بعد أن توفي والدهما في عنيزة، إضافة إلى حاجات أختهما الوحيدة المقيمة في نجد. فكان قراره بإرسال أخيه حمد إلى البحرين مع بعض مدخراته كي يبدأ تجارة خاصة بهما في المنامة على أنْ يزوده بمختلف السلع بحرًا من الهند. تزامن كل هذا مع مغادرة أخيه الأكبر محمد للبصرة من أجل الالتحاق بخدمة الملك عبدالعزيز في نجد كرئيس لديوانه. وتمر الأيام، ويشاء القدر أنْ يـُصاب أخاه محمد في معركة «تربة» (معركة وقعت بين قوات الشريف حسين بن علي بقيادة إبنه عبدالله وقوات الملك عبدالعزيز بقيادة سلطان بن بجاد في عام 1919 بوادي تربة البقوم)، فيضعف سمعه، الأمر الذي جعل الملك عبدالعزيز يستبدل محمدًا بأخيه الأوسط عبدالله الذي كان قد عاد للاستقرار في نجد في عام 1910، خصوصًا بعد أنْ سمع جلالته الكثير عن أمانته واجتهاده وحسن خطه وجمال إنشائه من وكيل جلالته في الهند «عبدالله بن محمد الفوزان». غير أنّ السليمان كان وقتها مهموماً بمشكلة سداد الديون المتراكمة عليه جراء تعاملاته التجارية في البحرين والهند فطلب من الملك عبدالعزيز أن يمهله بعض الوقت ريثما يسدد ديونه. ومع مضي الوقت كان الدائنون يتصلون بالملك شاكين لديه السليمان ومتهمينه بأكل حقوقهم.

أعجب الملك بصراحة السليمان حينما سأله عن ديونه، فلم ينفِ. فما كان منه إلا أنْ أمره بكتابة رسالة إلى البحرين كان نصها: «من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود إلى المكرم عبدالعزيز القصيبي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد. إذا جاءك كتابي هذا فابحث عن الدائنين لعبدالله بن سليمان، وسدد لكل واحد ما عليه من دين، واجعل ذلك في حسابنا الخاص والسلام». وهكذا صار السليمان منذ مطلع عشرينات القرن الماضي قريبًا من الملك عبدالعزيز يتعلم من حنكته وفطنه ويساعده على تدبير شؤون مملكته الفتية، بدليل أنه لم يمضِ وقت طويل إلا والسليمان، يصير وزير الخزينة الأول المسؤول عن جميع إيرادات ومصاريف البلاد، وشؤونها الاقتصادية بما في ذلك التموين والحج والزراعة والأشغال ومسؤوليات السيارات والأغنام والأبل ومنح العطايا و«الشرهات». وكان يساعده في أداء هذه المهام المتشعبة أخوه حمد بن سليمان الحمدان الذي عينه الملك وكيلا للخزينة.

لمدة طويلة ظل السليمان هو الشخص الوحيد في المملكة العربية السعودية الذي يلقب بـ «الوزير»، أو «وزير الملك». كان ذلك ــ بطبيعة الحال ــ قبل تأسيس مجلس الوزراء بوزارته المختلفة، بل الحقيقة هي أنه كان أول شخص يدخل المجلس حاملا حقيبة وزارية تمثلت في المالية التي تحولت إلى وزارة بدءا من عام 1927، من بعد أن كانت في عام 1926 مجرد مديرية مقرها مكة المكرمة ويتولى السليمان إدارتها بنفسه. ولعل الكثيرين لا يعلمون أن أحد أشهر شوارع الرياض في الماضي، ألا وهو شارع الوزير الذي تحول اسمه اليوم إلى شارع الملك فيصل، سمي بهذا الاسم نسبة إلى الوزير السليمان.

لم تنحصر مهام السليمان في إدارة الشئون المالية لبلاده، بل كان بمثابة رئيس فعلي للوزراء! حيث خدمها في مجالات كثيرة وحيوية في بواكير إنطلاق المملكة نحو تدعيم أركانها وتطوير حياة مواطنيها. فطبقاً لما كتبه منصور عساف في صحيفة الرياض (5/‏9/‏2014): «فقد كان له أدوار متعددة بالغة الأهمية، كدوره البارز باتفاقية النفط، ودوره بالحروب المحلية والأزمة المالية العالمية، ومساهمته في النهضة الاقتصادية للمملكة في بداية التأسيس، فضلاً عن أدواره وأولياته المتمثلة في توقيعه على اتفاقية التنقيب عن الزيت واستخراج وتكرير النفط، حيث فوّضه المؤسس بعقد اتفاقيات مع الشركات الأجنبية للتنقيب عن النفط، كما أنه كان أول من أنشأ البث الإذاعي في محافظة جدة في التاسع من ذي الحجة عام 1368 للهجرة (1958م) إضافة إلى كونه أحد أربعة أشخاص اختارهم الملك لتأسيس مجلس الوكلاء وهو اللبنة الأولى لمجلس الشورى عام 1350 للهجرة (1930م)، إلى جانب أنه شغل منصب النائب العام فكان من مهامه التعليم والصحة والبرق والبريد والشورى، كما كُلف بإتمام بناء دار الكسوة الخاصة بكسوة الكعبة المشرفة، إضافة إلى توليه بعض المهام العسكرية ومشاركته في الوفد المرسل من قبل الملك عبدالعزيز للتفاوض مع الجانب اليمني في عام 1352 للهجرة (1932م)، وإشرافه على أعمال المشروعات الزراعية المتمثلة حينذاك بمشاتل ومزارع وبساتين المشروع الزراعي الكبير بمدينة الخرج». ويمكن أنْ نضيف في هذا السياق ما قدمه السليمان للرياضة المحلية. حيث تقول بعض المصادر إنّ السليمان، بحكم علاقته وصداقته برائد الحركة الرياضية في السعودية الأمير عبدالله الفيصل (النجل الأكبر للمغفور له الملك فيصل ووزير الداخلية الأسبق)، اهتم بالرياضة ودعم أنشطتها المبكرة، وكان يحضر معه بعض المباريات قبل أكثر من نصف قرن. وانه بعد حضوره لمباراة في كرة القدم بين نادي الاتحاد وفريق البوارج البريطانية في جدة في عام 1949 وافق بصفته وزيراً للمالية على تخصيص ميزانية للنشاط الرياضي بقيمة 50 ألف ريال على أنْ تورد لإدارة الشئون الرياضية والكشفية بوزارة الداخلية.. 

على أنّ دور السليمان في إتمام اتفاقيات النفط مع الشركات الأجنبية، المشار إليه في الأسطر السابقة، بحاجة إلى التوضيح والتوسع. يقول الكاتب الإمريكي Wallace Stengner في كتابه المهم Discovery!: The Search for Arabian Oil، الذي كتب مادته في أواخر الخمسينات ثم نشرها على 14 حلقة في مجلة «عالم أرامكو السعودية» ما بين عامي 1970 ــ 1971 قبل أن ينشرها في بيروت من خلال كتاب في عام 1971، ما معناه أن السليمان، بسبب معرفته بالعراق والبحرين اللتين اكتشف فيهما البترول، هو الذي اقنع الملك المؤسس بضرورة البحث عن النفط، كبديل للبحث عن المياه، كي يتعزز الاقتصاد بموارد مالية مستقرة وفيرة تعفيها من الاعتماد على الدخول المتأتية من مواسم الحج. وأنه هو الذي أشار على الملك الاستعانة في ذلك بشركات النفط الأمريكية كبديل لنظيراتها البريطانيات، وذلك من باب التصدي المبكر لأي محاولات بريطانية للهيمنة على المملكة على نحو ما كان يفعله البريطانيون في العراق وفارس وإمارات الخليج. وهكذا وقع السليمان باسم الملك عبدالعزيز في مايو 1933 اتفاقية للتنقيب عن النفط في الأراضي السعودية مع شركة «ستاندر أويل أوف كاليفورنيا» (سوكال) الأمريكية. فكان ذلك فأل خير وبداية حقبة غيرت وجه البلاد السعودية.

بعد وفاة الملك المؤسس في 9 نوفمبر 1953 طلب السليمان من العاهل الجديد المغفور له الملك سعود أن يعفيه من مهامه كوزير للمالية، لكن الملك لم يبت في الأمر حالاً، وحاول إقناعه بالبقاء قبل أنْ يستجيب لطلبه في عام 1954 بناءً على إصراره. وقد خلفه في حمل حقيبة المالية معالي الشيخ محمد سرور الصبان الذي تولى لاحقاً في عهد الملك فيصل منصب أمين رابطة العالم الإسلامي.

في أعقاب تقاعده عن العمل الرسمي راح السليمان يمارس عشقه القديم المتمثل في التجارة والأعمال الحرة. وهنا أيضا قدم خدمات جليلة لبلاده! فهو أول من أسس مصنعاً للأسمنت في المملكة ومنطقة الخليج في عام 1957 تحت اسم «شركة الأسمنت العربية»، وهو أول من استثمر في بناء فنادق الخمس النجوم بالمملكة، فبنى فندقي «قصر الكندرة» و«جدة بالاس» في مدينة جدة. إلى ذلك دعم السليمان التعليم الجامعي في المملكة من خلال تبرعه بقصره ومزرعته في جده من أجل إقامة جامعة أهلية عليهما، أصر على إطلاق اسم الملك عبدالعزيز عليها وفاءً وعرفانا منه لذكرى الملك الذي ارتبط به وتعلم منه وعمل في خدمته جلّ سنوات عمره.

في العاشر من نوفمبر عام 1965 انتقل السليمان إلى جوار ربه في مدينة جدة، ودفن في مقبرة المعلاة في مكة المكرمة، مختتماً بذلك حياة حافلة بجليل الأعمال، وتاركاً خلفه سيرة عطره وخمسة من الأبناء الذكور هم: محمد وخالد وعبدالعزيز وأحمد وفهد، ومثلهم من الإناث، علماً بأنه لم يبق من الأولاد سوى عبدالعزيز وأحمد. غير أن اسم السليمان كعائلة تجارية لا يزال باقيا بفضل الجيل الثالث والرابع من الأبناء والأحفاد المتعلمين الذين توسعت أنشطتهم وتعددت استثماراتهم داخل السعودية وخارجها، مع احتفاظهم بخصلة التواضع ومد يد العون للمحتاجين التي زرعها فيهم جيل الآباء والأجداد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى