عبدالله بشارة : شاه إيران الحزين.. حساسيات الكويت وعقدتها
أول مرة شاهدت فيها إمبراطور إيران «محمد رضا بهلوي» في عام 1966، حين قام المرحوم الشيخ صباح السالم بزيارة رسمية إلى طهران بدعوة من الشاه، وكنت بمعية المرحوم الشيخ صباح الأحمد، ومعنا السفير عيسى الحمد، رئيس الدائرة السياسية في وزارة الخارجية، وبمناسبة تلك الزيارة أقام إمبراطور إيران حفل عشاء رسمياً ضخماً في أحد القصور بصالة استقبال اتسعت لمئات الأشخاص من كبار المدعوين من رجال ونساء، وكان الشاه وزوجته الإمبراطورة فرح ديبا في استقبال سمو أمير الكويت والوفد المرافق له.
وقفنا أنا والمرحوم السفير عيسى الحمد نراقب الوضع مأخوذين بالأجواء الأوروبية التي تميزت بها الحفلة، حيث كانت النساء يمارسن التدخين بشكل واسع، ومن ضمنهن الإمبراطورة فرح ديبا، التي كانت تعض على السيجارة منتظرة أن يتطوع أحد من العاملين أو المدعوين لإشعال السيجارة لها، لأن الإمبراطورة لا تحمل ولاعة، وأذكر أن عيسى الحمد شجعني أن أندفع متحاشياً البروتوكول نحو الإمبراطورة لأشعل سيجارتها، ولم ينجح في ذلك.
كانت البيئة أوروبية، غريبة على شعب إيران وعلى المجتمع الإسلامي، كانت الأجواء نسخة من الاحتفالات التي نراها في نشرات الأخبار عن استقبالات الرؤساء في فرنسا، بكل ما فيها من أبهة وعظمة الإمبراطورية..
كنت أتفحص الشاه وبجواره الشيخ صباح السالم، الذي ظل صامتاً ومراقباً، بينما يتحدث الشاه بهدوء تطغى على وجهه ملامح الأحزان، فبالرغم من ترحيباته وحرارتها، فإن طبيعته الخجولة وافتقاره إلى المرح ومبالغته في صلابة التقليد بمظاهر الجاه والقوة رسمت له الواقع الذي تعبّر عنه الصور وتنقل إلى العالم صورته العابسة.
في السياسة كان الشاه مسكوناً بالحساسية من انفتاح الكويت الإعلامي ومن ميولها العروبية القومية، وأكثر من ذلك سيطر عليه اليقين بأن القيادة الكويتية متأثرة جداً بالنفوذ الناصري، وأنها في تناغم مع التوجهات المصرية، كان الشاه معتمداً على ما ينقل إليه عن الإعلام الكويتي، وسيطرة القوى الناصرية عليه، سواء بتواجد الصحافيين المصريين، أو تأثير الجالية المصرية ومدرسيها وأطبائها.
كان يحمل تصوراً بأن الكويتيين فقدوا السيطرة على بلدهم، ولم يكن هذا الهوس بكراهية الناصرية واتهامه الكويت كراعية لها صداعاً وهماً محصوراً بينه وبين المسؤولين الكويتيين، وإنما كان يجاهر به أمام الخليجيين وأمام زواره من الغربيين.
كنت أقرأ الكتاب الذي أعده السيد أردشير زاهدي، وزير خارجية إيران لأربع سنوات، وزوج ابنة الشاه شهناز والمقرب جداً منه، حيث أعد هذا الكتاب في منفاه في سويسرا حيث يقيم، وتم نشره منذ سنتين.
يتضمن الكتاب بعض المحاضر وكثيراً من الرسائل التي كان يرسلها الوزير أردشير إلى رجال السياسة في الولايات المتحدة وعالم أوروبا، كما تضمن الكتاب محضر زيارة الملك فيصل بن عبدالعزيز إلى إيران ومباحثاته في عام 1968 مع الشاه، وقد أثارني المحضر، لأن الشاه أفرغ كل ما لديه من مخاوف حول الكويت في ذلك اللقاء الذي جمعه مع الملك فيصل. ولأهمية الجدل بين الاثنين سأنقل ما جاء في الكتاب وسأترجم أقوال الشاه وأجوبة الملك فيصل من الإنكليزية إلى اللغة العربية:
جاء في المحضر المؤرخ في 13 نوفمبر 1968 – والمسجل في طهران:
يبدأ بقيام الشاه متطرقاً إلى تعليقات الصحافة الكويتية حول زيارة الملك فيصل إلى طهران..
الشاه: الصحافة الكويتية غير مرتاحة من هذه الزيارة.
الملك فيصل: بعض الصحف الكويتية، مع الأسف، لها ميول يسارية متطرفة.
الشاه: لأن لها علاقات مع القاهرة.
الملك فيصل: هناك صحيفتان هما الطليعة والشعب مندفعتان.
الشاه: وأيضاً الوضع في بيروت، صحيفتان من لبنان لهما نفس التوجه بتأثير من مساعدة مالية مصرية.
الملك فيصل: لم يعد المصريون يصرفون كما السابق، ربما قليل الآن.
الشاه: يشوهون سمعتنا أنا وأنت، ويتوقعون شيئاً ما..
الملك فيصل: يمارسون الابتزاز بكل وضوح.
الشاه: في الكويت يرددون شعارات معادية للزيارة، نحن في إيران من أوائل من اعترف بالكويت.
الملك فيصل: هذه المظاهرات ينخرط فيها الشباب.
الشاه: يحمل الشباب أفكاراً وقناعات غريبة ولا يحسنون التفكير.
الملك فيصل: بدون شك في هذه المرحلة من العمر يتعرضون لتحولات يحتاجون فيها إلى حسن التوجيه.
الشاه: قدمنا للكويت جميع أنواع الدعم والمساعدة.
الملك فيصل: نحن أيضاً تعرضنا لهجوم في الكويت، رغم دورنا في الدعم العسكري.
الشاه: لا نطمع بأي شيء من الكويتيين سوى راحتهم واستقرار حياتهم، لكن عليهم الحفاظ على استقلالهم وعدم تحقيق أهداف الأعداء، فإذا تمكن الآخرون من ثروة الكويت، فستكون الحصيلة خطرة.
الملك فيصل: لا بد أن يهتموا بالوضع، فكل مشاكل الكويت من تدخل الأغراب، وكلهم من عرب، ويتهمون مشاوراتنا بأنها من أجل إنشاء حلف إسلامي وربط الخليج فيه.
فيرد الشاه: وما الخطأ في ذلك، ويعلق الملك فيصل بأن هدفنا سلامة الكويت ورفاهية شعبها والحفاظ على أمنها واستقرارها السياسي، وأفضل أسلوب الحديث المباشر مع المسؤولين فيها.
ويأتي رد الشاه بأن الكويتيين صداميين، ويضع الملك فيصل اللوم على العناصر البعثية التي تستهدف الاستيلاء على الكويت.
وكان تعليق الشاه بأنه نقل مخاوفه من حدوث ما يشبه انقلاب 1958 في العراق إلى الإنكليز، لكنهم لم يأخذوا ذلك التنبيه بالجدية.
وواضح من هذا الحوار عمق شكوك الشاه ومخاوفه من أجواء الانفتاح في الكويت، بينما يقف الملك فيصل شارحاً ومفسراً الأوضاع فيها.
تدور الأيام ويقوم الشاه بزيارة الكويت رسمياً عام 1969، وتشهد الكويت عمليات عبثية في أمنها ضد الزيارة، لكن الشاه يواصل الزيارة.
كان همه خلال هذه الزيارة تحذير الكويت من نوايا البعث العراقي، وضرورة اتخاذ إجراءات، عارضاً المساعدة إذا ما تدخل بعث العراق في أمن الكويت..
بعد عشر سنوات لم يعد للشاه وجود في المنطقة، مع ثورة الخميني، واستغلال دكتاتور العراق الفوضى ليغزو إيران، وتهب الكويت لنجدة العراق، مع آخرين من عرب وغيرهم، وتتوقف حربه مع إيران الثورة، ليلتفت إلى الكويت بغزو مرسوم بالخداع والحيل.
المهم زيارة الشيخ صباح السالم إلى إيران عام 1966، فتحت الأبواب للمساعي لإيجاد حل لادعاءات إيران في البحرين، حيث طلب الشاه بآلية يعبّر فيها شعب البحرين عن إرادته، وتم ذلك عبر الأمم المتحدة بعد مفاوضات كويتية – إيرانية – بحرينية في سويسرا، وفي الفيلا التي يملكها السيد زاهدي في منطقة منترو السويسرية.
هذه قطعة من عبر التاريخ عندما يضعف العقل ويتقوى الخيال ويتصاعد الطموح، تكون الحصيلة تدمير الشعوب والبلدان.
توفي أردشير زاهدي منذ عامين، وفي وفاته يرحل أحد الحصون التي كانت تصون الشاه وتحافظ على نظامه، وتظل الإمبراطورة السابقة فرح ديبا تعيش في الولايات المتحدة مشحونة بأوهام العودة.