رأي في الحدث

أحمد الجارالله : منعوا الأعرابيَّ من الدخول على المأمون فاحتال لتُفتح له الأبواب


استوقفتني طُرفةٌ تُروى عمّا فعلَهُ أحدُ الأعراب، الذي أراد مُقابلة الخليفة العباسي المأمون، لكن لم يُؤذن له طوال سنة، إذ يُروى أنَّ تاجراً عضواً في الدولة العميقة تعرَّض له قُطّاع الطريق، وأخذوا ماله فلجأ إلى الخليفة ليشكو إليه، وأقام ببابه سنة فلم يُؤذن له، فَعَمَدَ إلى حيلةٍ وصل بها إليه، وهي أنه حضر يوم جمعة ونادى بأهل بغداد اشهدوا عليَّ بما أقول: أن لي ما ليس لله، وعندي ما ليس عند الله، ومعي ما لم يخلقه الله، وأحب الفتنة، وأكره الحق، وأشهد بما لم أَرَ، وأصلي بغير وضوء.
فلمّا سمعه الناس حملوه إلى المأمون. فقال له: ما الذي بلغني عنك يا هذا؟ رد الرجل: “صحيح”، فقال المأمون: فما حملك على هذا؟
قال قطع عليَّ وأخذ مالي، ولي ببابك سنة لم يؤذن لي، ففعلت ما سمعت لأراك وأبلغك لترد عليَّ مالي، أجاب المأمون: “لك ذلك إن فسرت ما قلت”.
قال الأعرابي: أما قولي “إن لي ما ليس لله”، فلي زوجة وولد وليس ذلك لله، وقولي: “عندي ما ليس عند الله”، فعندي الكذب والخديعة، والله بريء من ذلك، وقولي: “معي ما لم يخلقه الله”، فأنا أحفظ القرآن وهو غير مخلوق، وقولي: “أحب الفتنة”، فإني أحب المال والولد لقوله تعالى: “إنما أموالكم وأولادكم فتنة…”، وقولي: “أكره الحق”، فأنا أكره الموت وهو حق، وقولي: “أشهد بما لم أر”، فأنا أشهد أن محمداً رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولم أرَه، وقولي: “أصلي بغير وضوء”، فإني أصلي على النبي، من غير وضوء. فاستحسن المأمون ذلك وعوَّضه عن ماله.
هذه الطُّرفة تقودُنا إلى المثل الشعبي المصري: “كل غربال له شدة”، بمعنى أن على المرء ألا يحكم على الأمور من الوهلة الأولى، بل الانتظار فترة من الوقت، وحديثاً درج في العالم أن مئة اليوم الأولى من أي عهد جديد تكون الامتحان الذي يُمكن من خلال نتائجه الحكم على من يتولون المسؤوليات الكبرى في الدولة.
لذا في تلك الدول، مثلاً، خصوصاً الملكية منها، لا حصانة لأبناء الملوك، أو أولياء العهد، بل يُحاسبون مثلهم مثل بقية المواطنين، وقد رأينا في الآونة الأخيرة بعض نماذج ذلك، سواءً أكان في بريطانيا أم إسبانيا، وغيرهما.
إذ مع التطور التكنولوجي والانفتاح الكبير الذي تعيشه الدول الديمقراطية، لم يعد هناك ما يخفى على الحاكم، وبدلاً من التنكُّر نهاراً والذهاب إلى الأسواق لمعرفة أحوال الرعية، أو الجولات الليلية على بيوت الفقراء، أصبح ما ينشر في وسائل الإعلام المصدر الأساسي لمعرفة أحوال الناس، وعلاج المشكلات التي يُعانون منها، فيما لم يعد هؤلاء بحاجة إلى الحيلة من أجل الوصول إلى مراكز صنع القرار لعرض قضاياهم، إلا في أضيق الحدود، وخصوصاً في الدول التي يغلق قادتُها أبوابهم أمام الرعية، وأبرزها الدول التي كانت فيها المخابرات تُهيمن على كل شيء، على غرار ما جرى في عهد عبدالناصر في مصر، أو ليبيا والعراق وغيرها، حين كان “زوار الفجر”، يحصون أنفاس الناس.
هذه الأساليب أدت إلى فوضى لا مثيل لها في تلك الدول، وقد دفعت شعوبُها ثمناً باهظاً جداً، ولايزال بعضُها يدفعه، فيما في بعض الدول الخليجية استنَّ الحكامُ سُنَّةً حميدةً، ومنها على سبيل المثال القاعدة التي أرساها العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز في بداية حكمه، وقوله في إحدى المناسبات عام 2017: “كلمة أُكرِّرها دائماً، رحم اللهُ من أهدى إليَّ عيوبي، وأُكرر أبوابنا مفتوحة، وهواتفنا مفتوحة، وآذاننا صاغية لكلِّ مواطن”.
والمُراقب لتطوُّرات الأحداث في المملكة يُدرك جيداً أنَّ سياسة الأبواب المفتوحة والاطلاع الدائم من أعلى السلطات على ما يحتاجُهُ الناس، أو المشكلات التي يُعانونها هي المصدر الأساسي للكثير من الأوامر الملكية التي قامت على إنصاف السعوديين.
ما يُثير الإعجاب بالسعي إلى نهضة الدولة، ما فعله نائب رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن راشد عام 2012 حين مرَّ بدائرة حكومية، فوجد أبواب المسؤولين فيها مُغلقة فأمر فوراً بخلعها وغرد كاتباً: “مررت بدائرة حكومية بشكل مفاجئ، فتعجبت من كثرة المديرين خلف الأبواب المُغلقة فأمرت بنجار في اليوم نفسه لخلعها جميعها”.
سياسة الأبواب المفتوحة هذه جعلت الإمارات واحدة من أكثر الدول تطوراً في المنطقة، لذلك استبشر الكويتيون خيراً بالزيارة الميدانية لسمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ أحمد النواف لمجمع الوزارات، وطالبوا بأن تكون دائماً لكل مرافق الدولة، وتصبح سُنَّة حميدة، بل غالبية الكويتيين اليوم يرون أن على ولاة الأمر، أن يعملوا على زيارات دائمة للمؤسسات والمقرات الحكومية، وأن يطَّلعوا من الشعب مباشرة على أحواله، فالدولة القوية هي التي يعمل قادتُها بكلِّ شفافية، حتى يعزلهم المستشارون وقادة الدولة العميقة عن شعبهم.
بالأمس كان سمو رئيس مجلس الوزراء في الميدان، وغداً سمو ولي العهد، ونتمنى أن تتركوا لوسائل التواصل الاجتماعي أن تنشط في كشف الحقائق، وألا تحبسوا المُغردين، بل خذوا منها السمين واتركوا الغث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى