جعفـــرعبــاس : أبو يمن أشفى غليلي
قلتها مرارا وسأقولها تكرارا: لا أطيق من يمارسون الغطرسة على الآخرين بالتعالي عليهم او بازدرائهم، ولا الأجلاف الذين يخالف سلوكهم وأقوالهم قواعد الأدب المتعارف عليها، وأذكر أنني دخلت ذات مرة محلاً للنظارات في مدينة الرياض، ومعي زوجتي وابنتي، وثلاثتنا من ذوي الاحتياجات البصرية، فأنا استخدم النظارة كي أمشي وأقود السيارة، وأخرى كي أقرأ، وورثت عني بنتي ضعف النظر الذي ورثته بدوري عن أسلافي، أما أم المعارك، فتستطيع أن ترى أبراج المنامة وهي في الدوحة، ولكنها لا ترى أي شيء على بعد قدم واحد من عينيها.
ورغم وجود خمسة موظفين في منتهى الأناقة في المحل الذي لم يكن به زبائن سوانا، تجاهلنا أولئك الموظفون، بل وعقدوني، لأنني كلما استفسرت من أحدهم عن أمر ما يتعلق بالكشف على النظر أو اختيار البرواز (الفريم) المناسب، رد علي ببياخة ووقاحة، دون أن ينظر إليَّ: تلقاه هناك.. متبوعة بعبارة تفيد بأنهم مشغولون بأمر مهم، وكل هذا وهم لا يتعاملون مع أي زبون، بل يتكلمون في أمور هازلة بأصوات مسموعة، أي أنهم اعتبروني وعائلتي زبائن كحيانين «تعبانين ماليا»، مع أن الكحيانين هم أكبر زبائن محلات النظارات، كما أنه قلّ أن يدخل شخص ما محل نظارات لـ«الفُرْجة»، كما يفعل الناس في متاجر السلع الكمالية والضرورية، وهكذا قررت أن ألعن خاشهم جميعاً، رغم أنني لا أعرف ما هو «الخاش»، ولكن يخيل إليَّ أن العبارة تعني رد الصاع صاعين، وليس لها صلة بـ«اللعن»!! وقبل أن أنفذ خطتي الانتقامية دخل شاب حسن المظهر يرتدي الزي الوطني السعودي والغترة الحمراء التي تميز أهل الرياض، وفجأة دب النشاط في المحل وتحول الموظفون الخمسة الذين حسبت لبعض الوقت أنهم يتعمدون تطفيش الزبائن لأن صاحب المحل أو الشركة لم يعطهم رواتب الشهر المنصرم، تحولوا إلى كتلة من النشاط والرقة والهمة، وتباروا في الترحيب بذلك الشاب وسؤاله عن مطلبه، حتى أصيب بالارتباك، ولكن أكبر الموظفين كرشاً تمكن من «الاستفراد» بالشاب، وخلال ثوان كان نصف العينات الموجودة في المحل قد وضعت أمام الشاب: هذه النظارة من شانيل وتلك الأخرى مصنوعة من الفينيل.. أما هذه فبالباشاميل!! توجهت نحو الموظفين الأربعة الذين أطاح بهم أبو كرش وقلت لهم: هذا شخص سيشتري نظارة واحدة.. ونحن نريد شراء ثلاث نظارات فهل تحسبون أننا سندفع المبلغ المطلوب بالدولار الصومالي؟
من تجربتي الشخصية فإن الشخص سيئ الأدب سريع الانهزام عندما يدرك أن من أساء معه الأدب لن يسكت على الإهانة، وبالفعل توالت اعتذارات باهتة وتبرع أحدهم مشكوراً بأن عرض خدماته علينا، ولكنني قلت له إنني لن أتعامل إلا مع «أبو كرش كبيرة» الذي كان أول من تجاهل أسئلتي عند دخولي المحل، ولحسن حظي فإن ذلك الشاب تضايق فيما يبدو من محاصرته بكلام سخيف دون أن يجد الفرصة ليحدد ما يريد وتحرك باتجاه الباب لمغادرة المحل، ولأن زوجتي أدركت أنني بت أعاني من نوبة «شر»، فقد أمسكت بيدي لتسحبني خارج المح… وبينما أنا أحاول إقناع زوجتي بأن السكوت على إهانة أولئك الموظفين لنا بتجاهلنا تماماً لا ينبغي أن يمر بلا رد، وجدت الشاب الذي تهافت الجماعة لعرض بضاعتهم عليه يشير إلي بيده في أدب وعلى استحياء، وتوجهت إليه وصافحته فسألني: أنت أبو الجعافر؟ مو معقول.. والله فرصة سعيدة. ثم شرح لي كيف أنه يقرأ مقالاتي في المطبوعات العربية اللندنية ثم صحيفتي عكاظ والوطن السعوديتين، منذ أن كان مبتعثاً في لندن من جامعة صنعاء!! فاحتضنته وسددت له بوستين رغم أن لي موقفاً مبدئياً من حكاية التحية بالبوس وسألته بلهفة: أنت يمني؟ فأجاب بنعم، فسألته: لماذا لم تشتر نظارة من المحل؟ فقال إنه كان يريد نظارة شمسية لأنه يعاني من حساسية في العين، ولكن الموظف «أبو كرش» لم يعطه الفرصة ليحدد مطلبه،… فرجوته أن يدخل معي المحل مجدداً فأقبل علينا الموظفون الخمسة بابتسامات بلاستيكية فقلت لهم: معليش يا جماعة.. الراجل طلع يمني. تعيشوا وتاخدو غيرها.