إبراهيم الجبين : ليونيل ميسي.. أسطورة جمّع فيها اللاتينيون رموزهم في مواجهة الغرب
قدرات خارقة
يعكس تناول الأرجنتينيين اليوم لشخصية نجمهم ليو ميسي، ومعهم شعوب أميركا اللاتينية التي عانت قبل الجميع من هيمنة الجارة الغنية الولايات المتحدة على مدى القرون الماضية، الطريقة التي يفكّر بها هؤلاء تجاه أنفسهم أولاً، كثائرين ومتمرّدين لا كرياضيين. وما لم يتمكنوا من تحقيقه في حروبهم السابقة، سواء من أجل التحرّر، وصولاً إلى جزر الفوكلاند، يريدون تعويضه في الملاعب.
ميسي بالنسبة إليهم ليس لاعب كرة قدم، هو فيلم طويل، أو رواية من روايات كتّابهم الكبار، في واقعيتهم السحرية، فذلك الطفل المتوحّد الذي كان الجميع يسخر منه ومن تأخر نموّه لأسباب مرضية، استطاع بقدرات خارقة أن يكسر جدار العزلة والتوحّد ليصبح معشوقاً لمئات الملايين من البشر، محققاً أرقاماً غير مسبوقة في التاريخ في مجاله، ومتفوقاً على الجميع.
ميسي هو الأرجنتين. كما كان دييغو أرماندو مارادونا هو الأرجنتين أيضاً، وقبلهما تشي غيفارا الثائر الذي ألهم العالم في الخمسينات والستينات، ولم يتمكن أحد من إيقاف ثورته سوى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
ابن البسطاء
صيف العام 1987 ولد ميسي لوالد من أصول إيطالية يعمل في مصنع الصلب، هاجر جدّه أنجيلو ميسي من إنكونا بإيطاليا في العام 1883، ولأم من عاملات النظافة في روزاريو ثالث أكبر المدن الأرجنتينية بعد بوينس آيرس وكوردوبا.
كان ليو الأضعف جسداً بين إخوته، ولكن فرداً في العائلة رأى فيه شيئاً مختلفاً، إنها جدّته سيليا أوليفيرا كوتشيتيني التي حلمت بأن يكون في المستقبل لاعب كرة قدم.
قالت له الجدة “ليونيل.. في يوم من الأيام، ستكون أفضل لاعب كرة قدم في العالم”. أصغى إليها الصغير وهو في سن الخامسة، وتبع رغبتها حين أخذته من يده وسجّلته في نادي “غراندولي” المحلي.
ثلاث سنوات قضاها الطفل في هذا النادي قبل أن ينتقل إلى نادي “نيويلز أولد بويز” الذي يعد واحداً من أهم ناديين في روزاريو. وهناك تألق ميسي مع جيل من مواليد العام ذاته 87 ولم يخسر سوى مباراة واحدة طيلة أربعة أعوام.
في سن الحادية عشرة قال الأطباء إن ميسي لم يعد قادراً على مواصلة اللعب، فجسده يعاني من نقص في هرمون النمو، وإذا لم تتم معالجته فسيكون مستقبله مهدداً. وكانت أولى المحطات المحبطة في حياته رفض نادي “ريفر بلايت” الشهير التعاقد معه، بعد أن كانت إدارة النادي متحمسة لذلك، غير أن معرفتها بمرضه جعلتها تتراجع عن قرارها. أما ناديه الأصلي نادي “نيويلز أولد بويز” فقد أعلم أسرته أنه سيتخلى عنه، وأنه غير مستعد لدفع تكاليف علاجه التي لم تكن سوى 900 دولار شهرياً فقط.
شعر والده خورخي أنه أمام قصة تحد كبيرة، فقرر الرحيل إلى برشلونة وعرض الأمر على ناديها العريق، فانتقل مع أسرته إلى أوروبا وخضع ابنه لاختبارات عديدة، وجوبه بالرفض في البداية، وكان هدف الأب تأمين العلاج لابنه وحسب. وأخيراً عرض المدرّب كارليس ريكساتش عقداً على ميسي مكتوباً على منديل، وذلك لفترة تجريبية، مقابل دفع تكاليف علاجه.
يروي ميسي عن تلك المرحلة، قائلاً “لقد قدمت كثيراً من التضحيات من خلال مغادرة الأرجنتين، تركت عائلتي لبدء حياة جديدة، لكن كل ما فعلته، فعلته من أجل كرة القدم، ولتحقيق حلمي، لهذا السبب لم أخرج للاحتفال أو أفعل الكثير من الأشياء الأخرى”.
في شقة بسيطة بالقرب من ستاد “كامب نو” في إسبانيا عاشت الأسرة بدءاً من العام 2001، ولم يدع نادي ميسي القديم لاعبه يهنأ بمساره الجديد، فقد اندلع نزاع قانوني بينه وبين برشلونة، فرض على ميسي أن يلعب فقط في المباريات الودية.
أوضاع ميسي الجسدية انعكست على حالته النفسية، فازداد تقوقعاً، وكان يميل إلى البقاء صامتاً، حتى اعتبره كل من حوله “غبياً”. لكنه واصل العلاج واللعب، حتى انضم إلى الاتحاد الملكي الإسباني لكرة القدم وصار بوسعه أن يلعب في نادي الشباب.
بدءاً من العام 2005 بدأ ميسي يحقّق النتائج المذهلة في مسيرته، من خلال بطولة العالم للشباب لكرة القدم، فحصل على الكرة الذهبية والحذاء الذهبي والميدالية الذهبية بعد الفوز في المباراة النهائية على نيجيريا.
منحته إسبانيا جنسيتها عندما بلغ من العمر 17 عاماً، وبات منذ تلك اللحظة قادراً على اللعب في النادي الرئيسي الأول لبرشلونة، صحبة نجومه البارزين مثل رونالدينيو وصامويل إيتو.
بدأ ميسي مسيرة أخرى مع الإصابات، فتعرّض لتمزق في عضلات الفخذ، وكسر في مشط القدم، ما حرمه من الحضور في الموسم التالي. أما موسم العام 2006 – 2007 فقد قدّم للعالم ميسي، كأصغر لاعب في برشلونة، فسجّل 11 هدفاً في آخر 13 مباراة بالموسم، وأحرز ثلاثية ضد المنافس التاريخي للنادي، ريال مدريد في “كلاسيكو” تابعه العالم كله.
بروز ميسي في فترة انحسار مارادونا جعل الرياضيين يرون فيه خليفة للنجم الأسطوري الأول، خاصة بعد أن بدا شبيهاً به في أسلوبه بالمراوغة والركض الطويل قبل التسجيل، فأصبح الأرجنتيني الثالث بعد مارادونا وغابرييل باتيستوتا الذي يسجل في 3 نسخ مختلفة لكأس العالم، بعد مشاركته في كأس العالم روسيا 2018.
خلال الأعوام الماضية، كان ميسي قطاراً من الإنجازات التي لا تتوقف، فدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية لأكبر عدد من الأهداف في سنة تقويمية واحدة وذلك عندما سجل 91 هدفاً في العام 2012. وهو اللاعب الوحيد في العالم الذي سجل في 19 مباراة متتالية بمسابقة الدوري، وقد سجل خلالها 30 هدفاً.
وحتى عيد ميلاده الـ35، كان ميسي قد خاض 974 مباراة، سجّل خلالها 769 هدفاً، إضافة إلى تسجيل 331 كصانع هجمات، لكن هذه الأرقام تغيّرت لاحقاً، فتجاوز ميسي المباراة الألف، وحقق المزيد.
فاز بالكرة الذهبية ثماني مرات، وحصل على جائزة أفضل لاعب في العالم، وجائزة “فيفا” لأفضل لاعب، والحذاء الذهبي مرات عديدة، وأفضل لاعب في أوروبا، وحصد جوائز “يويفا” لأفضل لاعب وأفضل هداف وأفضل مهاجم، وأفضل لاعب في الدوري الإسباني، ونال العديد من الجوائز الأخرى التي لم يسبقه إليها أحد.
العاشق الطفل
وسط هذا الألم الذي انتهى بالتألق، كان ميسي يتذكر طفولته باستمرار، ومن بين صور تلك الطفولة، صورة الطفلة أنتونيلا روكوزو التي كانت تسكن بالقرب من بيته، منذ أن كان في عمر التاسعة في روزاريو.
أنتونيلا كانت قريبة صديقه القريب منه في تلك الفترة، لوكاس سكاغليا، الذي سوف يصبح لاعباً محترفاً مثل ميسي، وعلى الرغم من سفر الأسرة إلى إسبانيا، إلا أن ميسي لم ينس أنتونيلا، وبقي يتواصل معها عبر الهاتف ومن خلال المراسلة، وما لبث أن تزوجها محققاً حلماً آخر من أحلام طفولته.
وعلى النقيض من مارادونا، لم يعرف عن ميسي أي فوضى في العلاقات النسائية، أو انغماس في عالم المخدرات التي قضت في النهاية على صحة النجم الأسطوري الأوحد للأرجنتين.
حتى مرضه القديم، ورغم شفائه منه، لم يفارق تفكير ميسي، فقد أسس مؤسسة “ليو ميسي الخيرية” التي تدعم الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية للأطفال الضعفاء، والتي تعمل على توفير أموال للأطفال الذين تم تشخيص إصابتهم بأمراض في إسبانيا وتغطي تكاليف النقل والمستشفى والاستجمام.
دييغو الأبدي
التنافس على قلوب الرياضيين وعشاق الكرة حول العالم، كان جوهر العلاقة بين ميسي ومارادونا، على الرغم من أن مارادونا تعامل مع ميسي كابن له، أما ميسي فلم يرغب بالتفوق على مارادونا بل أراد تكريس مكانته، وكثيراً ما ظهر معه ينظر إليه كملهم له.
لبس ميسي قميص مارادونا الرقم 10، وقاد مثله منتخب “التانغو” في تحديات كبيرة، وكان ينقص ميسي تحقيق ما أنجزه مارادونا في الظفر بكأس العالم، وحين مات مارادونا قال ميسي “إنه يوم حزين جدا لكل الأرجنتينيين ولكرة القدم. لقد تركنا ولكنه لن يرحل، لأن دييغو أبدي”.
بعد هزيمة الأرجنتين في بطولة كأس العالم 2022 في قطر على يد المنتخب السعودي لم ينكسر ميسي، وسرعان ما عاد إليه إلهام مارادونا الذي حلّت ذكرى وفاته بعد أيام قليلة، فنشر صورته على حسابه على إنستغرام، كما كان يفعل دوماً.
التشابه بين مارادونا وميسي كبير، فالإثنان من قصار القامة (1.69 متر طول ميسي مقابل 1.65 م مارادونا)، وكلاهما يلعب بالقدم اليسرى. وهما بطلان في كأس العالم تحت سن 20 عاما. حتى أن والد ميسي كان يروي للتليفزيونات الأرجنتينية بحضور مارادونا كيف كان ابنه الطفل يشاهد أهداف ومباريات العملاق مارادونا على أشرطة الفيديو ويتعلّم منه.
وحين جاءت فرصة للعمل المشترك بين الإثنين، وأصبح مارادونا مدرّباً لمنتخب الأرجنتين في الأعوام 2008 – 2010 اتبع مارادونا أسلوبية خاصة في التعامل مع ميسي أسهمت في صنع أسلوبية ميسي نفسه لاحقاً، فقد كان يريحه من التدريب الشاق، باعتباره “يحمل المنتخب كله على كتفيه”، كما كان يقول، ويجعله يتدرب على الركلات الحرة في التدريبات.
وحين كانت الصحافة تسأل مارادونا من هو الأفضل أنت أم ميسي؟ كان مارداونا يقول “لن تجبروني على قول كلمة واحدة ضد ميسي”.
إلا أن مارادونا غضب من ميسي بعد خسارة نهائي كوبا أميركا عام 2015 وقال “من المنطقي أن تلومه، إنه أمر سهل. لدينا أفضل لاعب في العالم، يمكنه تسجيل أربعة أهداف ضد ريال سوسيداد، يأتي هنا ولا يلمس الكرة. في وقت من الأوقات تتساءل: هل هو حقا أرجنتيني أم سويدي؟”.
انتقادات مارادونا لميسي منذ ذلك الحين قامت على قناعته بأن ميسي هو الأفضل، والمنتظر منه أكبر مما كان يقدّمه، فقال في العام 2018 في برنامج عبر قناة مكسيكية إن ميسي يفتقر إلى الشخصية القوية.
وصرّح بعد ذلك لقناة “لا أولتيما بالابرا” قائلاً إن “ميسي لاعب رائع، لكنه ليس قائداً. قبل التحدث مع المدرب واللاعبين، سيلعب البلاي ستايشن. ثم على أرض الملعب، يريد أن يكون قائدا. لكنه يبقى الأفضل في العالم مع كريستيانو”.
وعلى طريقته في السخرية قال مارادونا إنه من الصعب “أن تصنع قائدا من رجل يذهب إلى الحمام 20 مرة قبل المباراة. دعونا نتوقف عن تأليه ميسي. ميسي هو مجرد لاعب آخر من الأرجنتين”. لكنه تراجع عن تصريحاته تلك وعاد إلى امتداح ميسي من جديد، قائلاً “أنا أعشق ميسي”.
فكرة القائد وصلت متأخرة إلى ميسي، لكنها كانت مسيطرة على تفكير مارادونا طيلة الوقت، ومن لا يتذكر كيف عرض مارادونا على الزعيم الكوبي الوشم الذي رسمه على ساقه والذي يمثل صورته؟ أو ذاك الوشم الشهير على كتفه الذي يظهر فيه غيفارا؟
واليوم، ينتظر من ميسي أن يقود الأرجنتين وللمرة الأخيرة أمام الفرنسيين للحصول على كأس العالم، ليتوّج نفسه سوبرمان الأزرق والأبيض الخاص بالفقراء حول العالم.
*العرب