أحمد الجارالله : البغال وصوت البوق المُخدّر
من القصص المُعبِّرة التي قرأتها أنَّ سفينة مُتجهة إلى البصرة كانت تحمل بغالاً، وكان يتمُّ إخبار المسؤول عن إطعام البغال بواسطة بوق، فعندما يسمع صوته يبدأ بنشر العلف للدواب، فيما عرفت البغال أنه بعد صوت البوق سيصلُها الطَّعام.
تأخرت السفينة في الطريق، ولأنَّ العلف قليلٌ ومحسوبٌ لمدة السفر، أدّى ذلك إلى شُحٍّ فيه فتمَّ خفض إطعام الدواب إلى مرّة واحدة يومياً، حينها بدأت البغال تجوع، وتخبط بحوافرها أرض السفينة، وازداد هياجُها ونهيقُها، فما كان من أحد المسؤولين الحكماء على متن السفينة إلا اقتراح إطلاق البوق عندما تهيج البغال، فتحسب أن الطعام على وشك الوصول، فتهدأ.
بعد نجاح هذه الخطة مع البغال راحت حكوماتٌ كثيرةٌ في العالم الثالث تستخدمها مع شعوبها، فعندما يُعاني أي شعب من تدني الخدمات، وتفشي الفساد، وكثرة نهب المال العام، وحين تُصبح المحسوبيات سلوكاً عاماً في مؤسسات الدولة، وترتفع مُعدلات الغلاء والأجور لا تكفي، وتتسع أزمة السكن، ويعمُّ الاقتراض بين الناس للحصول على متطلباتها اليومية، يبدأ حينها الشعب بالغضب والهيجان والصراخ، فتأتي الأوامر للأبواق لتصدح بشعارات ووعود عبر خطابات زنانة مليئة بالحماسة والتهديد المُبطن، وأن أي خروج على طاعة الحاكم يعتبر مؤامرة على الوطن، وببرامج حكومات أساسها الوعد بأن الأزمة عابرة والمستقبل سيكون زاهراً، وأن المواجهة مع المُتربصين بالوطن تتطلب اليقظة وعدم الانجرار إلى الفوضى.
هكذا الحال مع الشعب الإيراني، حالياً، الذي وصل إلى مرحلة اليأس من صوت الأبواق المغلفة بشعارات دينية، وكأن الجوع والحرمان والفقر من وسائل إفشال المؤامرة، بينما يتمتع المسؤولون بالأموال المنهوبة لزوم التصدي للمُخطط الذي يستهدف البلاد.
على منوال مُشابه إلى حد بعيد يسير الأمر مع الشعب اللبناني حالياً، وكذلك العراقي، وغيرهما من الشعوب التي ابتليت بأنظمة غير قادرة على الخروج من قمقم المصالح الشخصية لمسؤوليها وعجزها عن حل أبسط الأزمات وعدم تلبية متطلبات شعوبها، لذا تسمع هذه الشعوب وغيرها في المنطقة العربية بين فترة وأخرى صوت الأبواق بخطابات رنانة، ووعود واهية من سياسيين امتهنوا النفاق والدجل.
هذا المخدر المسمى الوعود الخلبية أثبت نجاحه في كثير من الدول، التي باتت مدمنة على الخداع السياسي، ولهذا إذا خفت صوت بوق الوعود هاجت، ليس لنيل حقوقها، إنما لمزيد من التخدير.
صحيح أنَّ البغال وصلت إلى الجيش العثماني في البصرة في ذلك الوقت، لكنها كانت هزيلة، أما الشعوب التي ركنت إلى التخدير لفترة من الزمن بعضها ثار كما يجري في إيران التي مضى على انتفاضتها الحالية أكثر من مئة يوم، وهي مستمرة بالاشتعال، فيما شعوب لاتزال تتمسح بأعطاف المسؤولين، لينالها بعض الفتات، على قاعدة أن وجبة واحدة أفضل من لا شيء، كما هي حال الشعبين اللبناني والعراقي.
في المقابل، هناك دول تتصوَّر الطبقة السياسية فيها أن الشعب مجموعة قبائل وشعوب وطوائف يسهل السيطرة عليه من خلال التحكم ببعض ممثليه عبر تحريض بعضهم ضد بعض، غير أنها تخطئ؛ لأن نقمة الشعب كالسيل إذا انفجر أخذ كلَّ شيء في طريقه، فالجوع والحاجة والوجع يوحده، وبالتالي لا بد لها من أن تؤمن ما يطلبه اليوم؛ حتى لا تفقد ما لديها غداً، فصوت البوق المخدّر مهما علا لن يشفي غليل الشعب.