د. عبدالله المدني : بدر كـُريّم.. عاشق المايكروفون والمرافق الإعلامي للفيصل
في تاريخ الإذاعة السعودية خصوصاً، وتاريخ الإعلام السعودي عموماً، هو ركن وقامة شامخة وشخصية متميزة استطاعت الوصول إلى قلوب وعقول الجماهير والاستراحة فيها لسنوات طويلة دون منازع.. إنه الإذاعي السعودي الراحل بدر أحمد كريم الجهني الشهير بـ«بدر كريم»، الذي توفي بالرياض في 13 يونيو 2015 عن عمر 80 عاماً بعد معاناته من مرض السرطان، مخلفاً وراءه سيرة عطرة وتاريخاً حافلاً من العطاء والعصامية الفريدة.
ولد كريم في ينبع البحر (غرب السعودية) عام 1935، لأسرة متواضعة. كان والده أحمد كريم تاجراً بسيطاً يملك محلاً لبيع المواد الغذائية في ينبع وكانت والدته (زبيدة حامد الخطيب) ربة بيت مهمومة بتربية أبنائها ورعاية زوجها. درس القرآن وتعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب التقليدية في ينبع، ثم في المدينة المنورة التي انتقلت إليها أسرته بحثاً عن الرزق وهو في الخامسة من العمر، فكانت نشأته في مدينة الرسول بأجوائها الروحانية.
توفيت والدته أثناء إقامة الأسرة بالمدينة، فانتقل مع أبيه للإقامة في حارة البحر بجدة، حيث عاش شبابه وبدأ حياته العملية جابيا عند التاجر محمود عبدالغفار الأنصاري، فكان يستقل دراجة ويطوف على العملاء لتحصيل الديون. ثم عمل مساعداً لوالده الذي ترك تجارته البسيطة لامتهان التخليص الجمركي. وقتها راح يحلم بوظيفة حكومية يرتقي من خلالها بأحواله المعيشية، رغم علمه باستحالة ذلك لعدم امتلاكه أي شهادة دراسية. كان الرجل يعول على ثقافته الواسعة التي استمدها من قراءة الكتب والصحف بنهم والاستماع الدائم لبرامج الإذاعات المختلفة، فنجح في عام 1954 في الحصول على وظيفة «كاتب صادر ووارد» بإدارة الجوازات والجنسية بجدة، ليكون ذلك أول عمل له براتب شهري قدره 370 ريالاً.
وقد ذكر في كلمته خلال حفل تكريمه في إثنينية عبدالمقصود خوجة أنه أنفق رواتبه في شراء أول سيارة في حياته بمبلغ 1200 ريال وكانت مستعملة، وأنفقها أيضاً على اقتناء الصحف والمجلات والكتب لقراءتها وقت فراغه. ومن جوازات جدة انتقل للعمل مراقباً للمطبوعات بالمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، التي تحولت لاحقاً إلى وزارة الإعلام، ومن الأخيرة شق طريقه نحو الإذاعة، فحقق بذلك حلماً داعب خياله طويلاً. إذ إن هوسه بالإذاعة بدأ منذ صباه بدليل أنه كان في صغره يحول بعض العلب المعدنية الصغيرة بعد تثقيبها إلى ما يشبه المايكروفون ليتحدث من خلالها صائحاً: «هذا بدر كريم من إذاعة المملكة العربية السعودية»، كما كان يقف أمام المرآة متخيلاً نفسه مذيعاً ويتحدث إلى نفسه إلى درجة أن والده شكك في صحة قواه العقلية. وفي حادثة رواها ابنه ياسر خلال برنامج الراحل من قناة روتانا خليجية، وتعكس مدى هوس الرجل بالمايكروفون، أنه طلب ذات مرة من إمام أحد المساجد في حارة البحر بجدة أن يسمح له برفع الأذان، فكانت تلك هي المرة الأولى التي تحتضن يده معشوقته، المايكروفون.
بدأ كريم عمله بالإذاعة في عام 1957 مذيعاً للربط، فقارئاً لمواجز الأنباء، فمقدماً لبرنامج «ركن الصحة»، قبل أن يتم اختياره ضمن مجموعة من الإذاعيين والفنيين للسفر إلى مصر لتلقي دورة تدريبية هناك. والحقيقة أن الرجل، وقت التحاقه بالإذاعة، كان قد تجاوز بدايات زملائه الذين شقوا طريقهم من خلال برامج الأطفال. وبعبارة أخرى كان الرجل جاهزاً لا يحتاج إلى تدريب أو تمرين ومعززاً بصوت فيه من الرخامة والدفء والثقة بالنفس الشيء الكثير، لكن ما كان ينقصه آنذاك هو إجادة القواعد الصحيحة للغة العربية لأنه لم يدرسها.
وقد تحدث كريم عن ذلك في كتابه «أتذكر» الصادر سنة 2005، حيث أخبرنا أنه تعرض لهجوم قاسٍ ومطالبة بإيقافه عن العمل من قبل علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر لإخفاقه في قواعد اللغة، الأمر الذي جعل وزير الإعلام آنذاك الشيخ جميل الحجيلان يمنعه من قراءة نشرات الأخبار خوفاً من أن يخطئ. والجدير بالذكر في هذا السياق أن كريم لم يكن وقتها حاصلاً على أي شهادة، بما فيها الابتدائية، فقرر أن ينالها من خلال الدراسة ليلاً بمدرسة المنصورية بجدة والعمل نهاراً وتمكن، عبر استغلال نظام الجمع بين سنتين دراسيتين أو أكثر الذي كان معمولاً به آنذاك، من إنهاء مرحلتي الدراسة الابتدائية والإعدادية بنجاح. ثم عالج ضعفه في قواعد اللغة بقراءة كتب النحو والاتصال بكبار النحويين والكتاب السعوديين للاستفادة منهم، إلى درجة أنه كان يهاتف الكاتب السعودي الكبير محمد حسين زيدان خمس مرات يومياً مستفسراً ومتسائلاً عن هذا وذلك من صحيح اللغة.
وقد أراد بذلك أن يمحي أميته النحوية ويظهر بمظهر لائق أمام وزراء الإعلام الذين عاصرهم وكانوا جميعاً من المتبحرين في اللغة وقواعدها. ولعل هذا يعطينا دليلاً على عصاميته وإصراره واجتهاده على تلقي العلم لتطوير ذاته وليس بدافع البحث عن عمل. إذ إنه أنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة وهو كبير وعلى رأس وظيفة مرموقة، دون أن يخجل أو يتحرج من مزاملة من هم أصغر سناً بكثير. بل دون أن يصغي لبعض زملائه ممن حاول أن يثنيه عن ذلك بالقول «إنك معروف وتملك وظيفة محترمة فماذا ستجني غير إحراج نفسك بدخولك المدرسة لنيل شهادة الابتدائية». وفي السبعينات، وكان قد بزغت نجوميته الإعلامية على نطاق واسع، عاد كريم إلى المدرسة لحصد شهادة الثانوية العامة، ممنياً النفس بمواصلة تعليمه حتى نيل شهادة الدكتوراه. وفي هذا السياق، نقرأ في كتابه «أتذكر» أنه كان ينقل وقائع إحدى القمم الإسلامية التي استضافتها السعودية في السبعينات، في وقت كان قد حصل فيه على شهادة الثانوية العامة، فسأله الملك خالد بن عبد العزيز حينذاك، رحمه الله، عما سيفعل بعد نيل تلك الشهادة فأجاب أنه سيواصل دراسته حتى ينال شهادة الدكتوراه، فما كان من الملك إلا أن أشار إلى وزرائه، وكانوا جميعاً من الدكاترة، وقال: «أتريد أن تصبح مثل هؤلاء؟ الأفضل أن تبقى كما أنت فهو أنفع لك».
جملة القول إن كريم أبهر رؤساءه بكفاءته النادرة وشغفه اللامحدود بعمله الإذاعي وجلده على الارتقاء بذاته، ما جعله يحصل على ترقيات انتهت بتعيينه في عام 1980 مديراً للإذاعة السعودية.
وعلى الرغم من هذا المنصب القيادي، وبينما هو على رأس العمل، انتسب إلى جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، في نفس الوقت الذي كان يدرس فيها ابنه البكر ياسر، وتمكن من نيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع عام 1986م، ليتبعها بشهادة الدكتوراه التي نالها من قسم الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العام الدراسي 2006/2007م. المعروف أن كل ملك من ملوك السعودية ارتبط اسمه باسم مذيع سعودي معين يرافقه في جولاته. وبدر كريم فقد حظي بمرافقة الملك فيصل بن عبدالعزيز لمدة عشرة أعوام كان فيها شاهداً على زيارات الفيصل المكثفة لدول العالمين العربي والإسلامي من أجل تحقيق فكرة التضامن الإسلامي، وناقلاً أميناً لاجتماعات الملك مع قادة الدول الزائرين للمملكة في زمن اتسم بكثرة التحديات السياسية والأمنية. ومما لا شك فيه أن ارتباطه هذا بالفيصل سمح له بمعرفة طباع الملك، التي اختصرها في: «طول الصمت وقلة الكلام وقصر الجواب».
كما أن مرافقته للملك في جولاته حول العالم مدته بثقافة واسعة لم تتح لغيره من زملائه لدرجة أن الناس كانوا يغبطونه. وفوق ذلك أصبح الرجل نجماً جماهيرياً يتوق الناس إلى لقائه والتعرف عليه، خصوصاً بعد أن بدأ بث التلفزيون الرسمي السعودي منتصف الستينات وصارت تغطياته لزيارات الفيصل الخارجية متاحة بالصوت والصورة، وصار هو من مقدمي برامج التلفزيون أيضاً ومنها برنامج المسابقات «طلابنا في الميدان».ومن المواقف المحرجة التي تعرض لها آنذاك واعتبره هو درساً لم ينسه، إنه خلال تعليقه على مجريات افتتاح مشروع الصرف والري بالهفوف الذي دشنه الفيصل في مطلع السبعينات أخطأ بقوله: «وهكذا شاءت إرادة الفيصل أن يكون للاحساء مشروعها الزراعي الجبار»، فإذا بالملك يتدخل ويصحح له قائلاً: «إنها ليست إرادة الفيصل وإنما إرادة المولى عز وجل».
في التسعينات بلغ كريم سن التقاعد، وكان صعباً عليه أن يغادر الميدان الذي عشقه وقضى به جلّ شبابه. لكن تقديراً من الدولة لجهوده الإعلامية ولتاريخه العصامي الفريد تمّ تعيينه مديراً عاماً لوكالة الأنباء السعودية.
وهنا أيضاً شمر عن سواعده لنقل الوكالة من حال إلى حال مسنوداً بثقة ولاة الأمر وتوجيهات وزير الإعلام آنذاك الفريق علي الشاعر، الذي طلب منه أن يكون عمل الوكالة على مدار الساعة ولا ينقطع لحظة واحدة كي تكون مستعدة لنقل الأخبار ومواقف البلاد من الأحداث أولاً بأول. بذل كريم كل ما في وسعه لتحقيق رغبة وزيره، فأصدر قراراً بأن يستمر عمل الوكالة 24 ساعة، بعد أن كانت تغلق في الثانية صباحاً.
وفي هذا السياق أخبرنا ما مفاده أنه وصله بيان من الملك فهد في حدود الساعة الثالثة صباحاً لنشره من خلال الوكالة، ولأن الأخيرة كانت مغلقة اضطر للاستعانة بوكالة أنباء البحرين لنشر البيان، وأنه قرر بعد هذه الواقعة أن يكون عمل وكالة الأنباء السعودية على مدار الساعة. من البرامج الإذاعية التي أكسبت كريم شعبية جارفة برنامجه «سمار رمضان» الذي اعترض الوزير الحجيلان على اسمه الأصلي (سمار رمضان مع بدر كريم) قائلاً لكريم: «يا ابني العنوان مع اسمك أربع كلمات، وفي كل كلمة حرف راء، وهذا خلل إذاعي»، فتنبه كريم وتنازل عن العنوان المقترح.
غير أن برنامجه الأشهر يبقى برنامج «سلام وتحية» والذي بسببه اشتهرت أغنية «يا من يسلم لي على الغالي» للفنانة هيام يونس والتي اختارها كمقدمة لبرنامجه هذا، الذي لعب كحلقة وصل بين المبتعثين السعوديين في الخارج وأسرهم في الداخل في زمن لم تكن فيه وسائل الاتصال الهاتفية متاحة بسهولة ويسر كما هو الآن. وفي عام 2001 تمّ اختياره ضمن 120 شخصية من الكفاءات الوطنية ليكون عضواً بمجلس الشورى السعودي، حيث أخبرنا عن تجربته الشورية بقوله: «أمضيت السنة الأولى في المجلس مستمعاً وقارئاً، وفي السنة الثانية أبديت رأيي، مداخلاً ومتسائلاً ومقترحاً، وفي السنة الثالثة اشتركت مع بعض الزملاء في مناقشة الأنظمة وصياغتها، وفي السنة الرابعة اكتملت التجربة من وجهة نظري». بعد خروجه من الشورى عام 2005 طرق باب جامعة الإمام محمد بن سعود لنيل الدكتوراه، ومن ثم عمل بها محاضراً في قسم الإعلام.
علاوة على كتابه «أتذكر»، أصدر العديد من المؤلفات ومنها: «سنوات مع الفيصل»، «قراءة في فلك الإعلام»، «الكلمة المسموعة»، «نشأة وتطور الإذاعة في المجتمع السعودي، والكثير من البحوث والمقالات الاجتماعية والإعلامية منشورة في الصحف والمجلات، ولاسيما صحيفة عكاظ التي يعتبرها مدرسته الصحفية الأولى. ومن حكاياته أنه أصيب في الستينات بالسل، فأقام نادي الاتحاد مباراة ودية مع نادي الوحدة على ملعب الصبان في جدة، على أن يكون ريعها لصالح علاج بدر كريم، فتدفقت الجماهير على الملعب، ما جعل ريع المباراة 6000 ريال، وهو مبلغ سافر به كريم إلى لبنان للعلاج، إلى أن شفي تماماً وخرج من المشفى للإقامة في فندق للنقاهة، وحينما اكتشف الفندق أنه كان مصاباً بالسل رفض استضافته.