عبدالله بشارة : مأساة غزة.. وكفاح أهلها
لأجل الاختصار أدوّن ملاحظات أفرزتها غارة «حماس».
أولاً: في عملية غير مسبوقة في خطتها، وفي أهدافها، وفي تأثيراتها، شنت منظمة حماس الفلسطينية هجوماً براً وبحراً وجواً، تمكنت فيه من أسر أكثر من مئتي شخص، وقتل ألف وأربعمئة وفق الإحصائيات المعلنة، وأخذت، عبر هذا الهجوم، قضية فلسطين إلى أبعاد مغايرة عما كانت عليه، وستنال هذه الأبعاد منظمة التحرير في فصل التبدلات، قد يمس طواقمها وأسلوب عملها، وأيضاً في تشكيلة أصحاب القرار فيها، مع مقاربة عربية وعالمية غير التي نعرفها عربياً وعالمياً.
ثانياً: دخلت إستراتيجية منظمة التحرير، التي التزم بها رئيس المنظمة وجهازه خلال السنوات الماضية، فصلاً مغايراً يحمل تحولات تتولّد منها إصابات مباشرة للأسلوب الذي تبنّاه أبو مازن، المتميز بقدرة نادرة على هضم المؤذيات والصدمات وانسداد آفاق الأمل، وأتصوّر أن مهندسي الهجوم المفاجئ سيكون لهم القول المؤثّر في مسار المستقبل، ولا أتصوّر أن أبواب الأمل ستُفتح مستقبلاً، ما لم تبرُز مفاجآت تزيل الواقع، الذي تعيش فيه القضية.
ثالثاً: جاءت عملية «حماس» انتحارية فدائية، يدرك مهندسوها شدة المواجهة التي ستفرزها العملية، وهم على علم باحتمالات الوحشية التي سيعيشها شعب غزة والضفة الغربية في سفك الدماء، وتحطيم آليات المعيشة التي يعتمد عليها الشعب المكافح، وفرض قيود المحاصرة، واستحضار كل ما يؤذي، في عملية انتقام واسعة مفتوحة في إطارها الزمني والجغرافي والدموي.
رابعاً: لن تنحصر حالة العذاب والتنكيل في جغرافية غزة والضفة الغربية، وإنما الواضح أن إسقاطاتها ستعبر إلى دول الجوار، وربما إلى جميع البقع، وكل المواقع التي يتواجد فيها اللاجئون الفلسطنيون في الأردن وسوريا ولبنان، والمناطق الأخرى، وليس من المستبعد أن تصيب فلسطيني إسرائيل، والخوف أن تستغل حكومة إسرائيل هذا الاحتمال لتهجير مواطنيها من الفلسطينيين، فكل الاحتمالات واردة، بما فيها أمواج الهروب واحتمالات الهجرة، التي تتخوّف منها دول الجوار.
خامساً: نتحدّث عن تأثير الحادثة على دول الجوار العربية، التي كانت قيادتها في قمة القاهرة تترجم المخاوف من مخاطر تدفق اللاجئين نحوها، وما تحمله هذه الأمواج البشرية من أثقال على دول الجوار المزدحمة بمتاعب الحياة، والساعية إلى تحقيق تقدّم في حياة مواطنيها، الذين يعيشون على آمال هذا التحسّن، خصوصاً أن بعضاً منهم يعاني تمزقاً مجتمعياً أفرزته معارضتهم لنظام الحكم، كما نراه في واقع سوريا التي تعيش انقساماً داخلياً صادراً عن جمود النظام وعجزه عن التطور والانفتاح.
سادساً: لن تستطيع دول الجوار العربية، سوريا ولبنان والأردن ومصر، صدّ أو تطويق الحصيلة التي تولّدت من عملية «حماس» وتأثيراتها على استراتيجية هذه الدول في التعامل مع القضية الفلسطينية، فلا شك أن القضية الفلسطينية دخلت بيئة مغايرة عما كانت عليه، فلم يعد أبومازن ممثلاً لاحتمالاتها المستقبلية، فمستجداتها الحالية تستدعي رجال دولة، يقيّمون الفرص ويدرسون بكل حصافة الممكن، ويبعدون المستحيل ويرفعون احتمالات المقبول.
سابعاً: على من يتولى قيادة التوجّه الفلسطيني القادم أن يدرك أن ممرات المفاوضات القادمة ومساعي الأسرة العالمية لا تهضم أطروحات «حماس»، التي بعمليتها أدخلت القضية في موقع مغاير عن الزمن القديم، ومن المؤسف أن نعترف بأن الحادثة أضعفت الممرات، التي كان من الممكن أن يخرج منها مشروع أفضل من احتمالات المستقبل، فلا مجال لتجاهل التبدلات في القناعات، التي كانت واضحة في مؤتمر القاهرة، وكذلك من مواقف الولايات المتحدة، التي تمثّلت في تصريحات وبيانات الرئيس بايدن، والتي تظهر عمق الترابط الاستراتيجي بين الولايات المتحدة واسرائيل، كما توضح حدة المعارضة الأوروبية للعملية، وإصرارها على إدانة منفذيها.
ثامناً: يمكن رصد التوجّه العربي والعالمي في معالجة القضية بحدود الممكن في أسرع وقت، والواضح أن هناك ضجراً شاملاً من استمرار الصعوبة في إيجاد حل لها، مع الدفع لإحياء آلية المفاوضات، بالتعاون مع جميع الأطراف لتحقيق الإجماع، الذي أكدته قمة القاهرة، في حل يشمل دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وعاصمتها القدس، ولا مفر من التأكيد على أن عملية المفاوضات تستوجب قبولاً أميركياً لإحياء نهج المفاوضات، فلا حل من دون المشاركة الأميركية.
تاسعاً: ولأن العملية غير مسبوقة، لا في آلياتها، ولا في جرأتها، ولا في حصيلتها، فقد جاءت لغة الاستنكار والإدانة من الولايات المتحدة وأوروبا وبعض الدول الأخرى حادة في تجريم العمل الفدائي الفلسطيني، من دون إشارة إلى انسداد منافذ الأمل للشعب الفلسطيني، الذي ما زال ينتظر بعض الإنصاف منذ أكثر من ثمانين سنة، مع مضايقات عالمية تتصدى لكفاحه، بما فيه حقه بأن يغضب من قسوة التجاهل والنكران. وقد كان الرئيس الأميركي مبالغاً في مفرداته، وفي تجاهله للمأساة الفلسطينية، وكريماً في سخائه مع إسرائيل، وشعوري بأن العمل السياسي لتحريك القضية سيتأجل إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وستكون عملية «حماس» حاضرة في جميع مفاوضات المستقبل، مع انحسار في التفاعل الإيجابي من قبل واشنطن وأوروبا.
عاشراً: تمت عملية «حماس» بمعزل تام عن ترتيبات حاشدة لإمكانية المواجهة، التي لا مفر من أن تأتي من اسرائيل بثقل قوتها وحجم سخطها على نجاح العملية، من دون اكتشاف من مخابراتها، ومن الواضح أن الذين خططوا للعملية أرادوها انتحارية، راضون بنجاحها ورسمها كعملية انتحارية ثرية في حصادها، دون التأمل في حسابات ما قد تتخذه إسرائيل من إجراءات تنال من سلامة شعب فلسطين، لاسيما في غزة المحاصرة، مع اليقين بأن الهجوم الإسرائيلي كان دائماً ضخماً ومؤذياً عند المقارنة بحجم ما تفعله المنظمات الفلسطينية.
نتابع منذ العملية تصاعد الدمار في حياة المواطنين ومساكنهم، وضياع الأمل، وتكاثر الهموم، وتصاعد أعداد القتلى، من الصغار ومن كبار السن، مع الغموض المغطي لدروب المستقبل.
حادي عشر: نالت إسرائيل دعماً عالمياً لا تستحقه، ارتفع فيه حصادها السياسي والمالي والعسكري، وفّر لها أيضاً موقفاً غربياً جماعياً متصلباً بمتابعة عالمية حول ما وقع فيها، مع تجنيد الإعلام واستنفار دبلوماسي غير مسبوق، في تجاهل كامل للمصائب التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ عام 1948.
ثاني عشر: لم يحقق مؤتمر القاهرة ما كانت تخطط له الحكومة المصرية، التي كانت إستراتيجيتها حول المؤتمر تتجسّد في الخروج بمقاربة تتناسب مع مستجدات القضية في ضوء غارة «حماس» وردة الفعل الاسرائيلية، تتقبلها واشنطن وأوروبا بزخم قوي لاستئناف المفاوضات بحيوية جادة تقرب فرص النجاح.
كان الموقف الأوروبي صلباً في الإصرار على حالتين، يجب أن يتقبلهما المؤتمر، إدانة «حماس»، وتأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
وخرج المؤتمر من دون إجماع، وأظن أن الإصرار على هذا الموقف سيواجه القضية في مجلس الأمن، وفي لجان الأمم المتحدة، وربما في كل لقاء تشارك فيه أوروبا والولايات المتحدة.
سنقرأ كثيراً عن أحداث قادمة خرجت من واقع غارة «حماس»، لا يمكن التكهّن بمحتواها، مع إجماع حول جوهرية التبدلات التي سنتعرّف عليها في ما بعد، خصوصاً حول إعمار غزة ووكالة غوث للاجئين، وأكثر إزعاجاً ما قد يحصل في أجواء الأمم المتحدة من تواجد هذه الحادثة في كل قرار يتعلّق بموضوع فلسطين، وفي مناقشات الجمعية العامة، ليس في هذه الدورة فقط، وإنما لدورات كثيرة قادمة.
*القبس