د. هيثم الزبيدي : الفصل الأخير من عرس بنات آوى القطري
يقترب عرس بنات آوى القطري من نهايته. بتعليق القطريين وساطتهم بين حماس والإسرائيليين حول التوصل إلى هدنة وإطلاق سراح المحتجزين، تكون الدوحة قد تبنت رسميا ما تسرب مسبقا عن تغير موقفها من حماس بعد ورطة السابع من أكتوبر 2023.
لم ينف أحد ما أورده الكاتب الأميركي بوب وودوورد في كتابه “حرب” الصادر مؤخرا عن تلك الحوارات الحاسمة بين كبار المسؤولين الأميركيين والزعماء العرب وكبار مساعديهم المقربين. ينقل لنا وودوورد تلك الحوارات المذهلة التي تمت في الأيام الأولى التي أعقبت “طوفان الأقصى”. في أول الحوارات، كان مصير حماس قد تقرر إقليميا. حماس عبء ينبغي التخلص منه.
في حالة قطر، انس كل ما تقوله الجزيرة. كل هذا الصوت العالي الصادر عن شاشات القناة، لا يعدو كونه دخانا للتغطية على الموقف القطري الحقيقي.
عندما وصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى الدوحة قادما من الأردن بعد لقاء مع العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، يوم 13 أكتوبر 2023، التقى على الفور بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. حتى من قبل أن يبادر بلينكن بالضغط على الأمير بخصوص مصير حماس، بادر الشيخ تميم وحسم مصير علاقة بلاده بالحركة لما بعد “الطوفان”. حماس موجودة في الدوحة الآن لدور واحد وأخير لها: إنها قناة للتفاوض مع حماس الداخل بقصد إطلاق سراح الرهائن/المحتجزين الإسرائيليين الذين أخذتهم حماس في طريق عودتها من غزوة الطوفان الشهيرة.
فهم القطريون من أول لحظة أن ما أقدمت عليه حماس في “طوفان الأقصى” هو خطوة لا يمكن الرجوع عنها سياسيا. انطلق العد التنازلي. القطريون سهلوا الأمر على أنفسهم وروجوا لقناعة داخلية في أوساط الإخوان وحماس والجزيرة، بأن العداد يشير إلى مواعيد لهدنات محتملة يصاحبها إطلاق المحتجزين. لكنهم، وهم أصحاب الذكاء الفطري في اللعب على هواجس الآخرين، أدركوا أن العد التنازلي إنما يشير إلى نهاية اللعبة.
نستأذن الكاتب وودوورد في نقل ما قاله في كتابه نقلا عن لسان الشيخ تميم. قال أمير قطر لوزير الخارجية الأميركي: “أوضحنا لحماس أن لا أحد يقبل ذلك. لا أحد يقبل ما فعلوه. لم يعد لديكم أصدقاء. ماذا تتوقعون أن نقول للأميركيين والإسرائيليين؟” قال بلينكن للأمير: “هناك أمران باسم الرئيس: الآن أنتم تتعاملون مع حماس بخصوص الرهائن. نحن نقدّر أهمية وجود قناة للتفاوض على إطلاق سراح الرهائن.” وأضاف: “ولكن عندما ينتهي هذا، لا يمكن أن يستمر الوضع كالمعتاد مع حماس. هذا غير مقبول.” قال الأمير: “أفهم ولن يحدث ذلك. لا أحتاج إلى حماس بعد الآن. لا أريد عقبات مع أميركا. سنبقي القناة مفتوحة الآن لأنكم تجدونها مفيدة. علاقتنا مع أميركا مهمة جدا.”
حماس في الدوحة لم تعد أكثر من قناة مفيدة للأميركيين والإسرائيليين. الشيخ تميم لديه ما يكفي من الذكاء والدهاء لتقدير الفارق بين الصوت العالي الصادر عن شاشة الجزيرة، وعلاقاته مع الولايات المتحدة. حماس بالنسبة إليه ورقة في لعبة، تلعب وترمى على الطاولة وينتهي الأمر (أو هكذا يعتقد على الأقل إلى حين رؤية كيف سينفذ الإسرائيليون انتقامهم من قطر). لكن الولايات المتحدة بالنسبة إلى قطر هي -من دون مبالغة- كل شيء. كل شيء، ابتداء من الاسترخاء الذي يمارسه الأمير ووالده وأسرته الحاكمة تحت حماية أكبر وأهم قاعدة عسكرية أميركية خارج دول الناتو، وصولا إلى حماية أموال وأصول بمئات المليارات حول العالم أتت من غاز تبيعه قطر وتجمع ماله وتستثمره كما تشاء وباسترخاء لا يقل عن الاسترخاء الأمني. هذا هو الحال إلى حد الآن على الأقل. والشيخ تميم عندما باغت وزير الخارجية الأميركي بلينكن بتقديمه رأس حماس حتى من قبل أن تطلبه واشنطن، كان يدرك ما هو على المحك الآن.
سواء أكانت قطر تعرف مخطط يحيى السنوار لإطلاق “طوفان الأقصى” أم لم تكن تعرف، فهذه الأمور تبدو تفاصيل الآن لن تقدم أو تؤخر. وسواء أكان المكتب السياسي لحماس -ورئيسه إسماعيل هنية تحديدا- يعلم بخطة السنوار أم لم يكن على علم بها أم تكتم عنها، فهذا أمر أيضا تجاوزه الزمن وبلغت رسالة الرد عليه قطر وغير قطر -خصوصا إيران- يوم تم اغتيال هنية في دار الضيافة المحصن في طهران.
تقول الدوحة إنها علقت وساطتها في التفاوض بين حماس والإسرائيليين. لكن القيادة القطرية تدرك أن لا شيء اسمه مفاوضات هدنة منذ اللحظة التي بدأ فيها الجيش الإسرائيلي والموساد عملياتهما ضد حزب الله في لبنان. حماس وحرب غزة تحولتا إلى هامش لا يقدم أو يؤخر في اللعبة الأكبر التي تجري في لبنان. هل كانت لحظة قتل أمين عام حزب الله حسن نصرالله لحظة معلومة متوفرة، أم سبقتها معلومات كثيرة مشابهة، لكن إسرائيل تريثت في تنفيذها إلى حين اكتمال تدمير غزة وأن يصبح البيجر والووكي توكي الجديدان في جيب أو حزام كل شخص لديه حيثية وأهمية في تراتبية مؤسسة حزب الله في لبنان، وتنفيذ التفجيرات التي أذهلت اللبنانيين قبل الشروع في التقاط اللحظة المناسبة لقصف مكان تواجد نصرالله وانطلاق مرحلة جديدة من المواجهة. لا شك أن القطريين وهم يشاهدون سحب الدخان البرتقالية التي ارتفعت عقب قصف مقر نصرالله، أدركوا أن وساطتهم انتهت. وإذا كان لديهم أي شك، فإن مرحلة الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية تكفي لانشغال الإدارة الأميركية، وإن أقصى ما يمكن التفكير فيه في هذه المرحلة هو الحصول على تصريح عابر من بلينكن. ثم أجهز دونالد ترامب على ما تبقى من أوهام بفوزه الكاسح على كامالا هاريس.
البيان القطري عن تعليق الوساطة كان مجرد تثبيت لواقع حال. أما ما يقال عن تسليم قادة حماس إشعارا بالإخلاء من مكاتبهم وفنادقهم وفللهم في الدوحة، فقد حسم الأمر -كما نقلنا عن كتاب وودوورد- يوم التقى الشيخ تميم بالوزير بلينكن. وساعد التدخل الإسرائيلي بالضربات الكارثية، التي وجهت إلى قيادات حماس وتصفية يحيى السنوار وقبله إسماعيل هنية وصالح العاروري، في رفع الحرج عن القيادة القطرية. فمن تبقى من قيادات حماس، من أمثال خالد مشعل، قد سبق وأن تروّض على تبليغات بالإخلاء من قبل، سواء أكان إخلاءً شخصيا كما حدث مع طلب الأردنيين من مشعل مغادرة عمّان، أم إخلاء فلسطينيا بمستوى الآلاف مثل طرد منظمة التحرير من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970، أو من لبنان بعد الغزو الإسرائيلي أولا والمواجهة مع سوريا تاليا، من بيروت عام 1982 بعد حصار إسرائيلي، ومن طرابلس أواخر عام 1983 بعد حصار سوري. لا شك أن قادة الفصائل الفلسطينية لديهم حقائب محزومة جاهزة دائما للحظة المغادرة.
للحق فإن عرس بنات آوى في الدوحة قد طال كثيرا وتقلب وتنوع. واحدة من البنات كانت حزب الله الذي تبدلت أحواله على حنجرة “قادة” قناة الجزيرة بين البطولة قبل اندلاع الحرب الأهلية السورية، ثم ما يشبه الشتم، عندما وقف نصرالله مع الأسد، ثم العودة إلى الإشادة بالبطولة بعد اندلاع الحرب الجارية. في العادة تجتمع بنات آوى ويتحلق حولهن الكثير من أبناء آوى، ويبدأ العواء، ثم تتم المهمة وينتهي العرس. اليوم تقدم بيانات التوضيح القطرية الفصل الأخير من العرس. ستخفت الأصوات في الدوحة، لكن ما لن يخفت هو صوت الانفجارات من القصف الإسرائيلي المجرم على رؤوس الأبرياء في حرب أخذت إيران فيها الفلسطينيين واللبنانيين وتسببت في مقتل عشرات الآلاف منهم وهدم مدن على رؤوس قاطنيها دون هدف واضح، اللهم إلا ما تصر الجزيرة على تقديمه من حكايات، يبدو أن الدوحة نفسها لم تعد تريد سماعها. أصوات العرس صمت الآذان في قطر وأمست مزعجة.
*العرب