العميد الركن خالد حماده :عون في الرياض من العلاقات الأبوية إلى الإلتزام العربي

يتطلّع اللبنانيون بأمل كبير إلى ما ستفضي إليه زيارة رئيس الجمهورية جوزاف عون الى الرياض. مواقف عون حيال الدور التاريخي الذي تؤديه المملكة في احتضان اللبنانيين، وثباتها في دعم استقرار لبنان الذي توّج بإنهاء الشغور الرئاسي وتشكيل حكومة قادرة على اكتساب إحترام وثقة المجتمعين العربي والدولي، إستبقت الزيارة في مناسبات عديدة. لكن دور الرياض حيال لبنان وحيال قضايا المنطقة هذه المرة لا يمكن إلا أن يتّسق مع الموقع الجديد الذي انتزعته المملكة في التعامل مع سلسلة من الأزمات إمتدت من أوكرانيا إلى غزة مروراً بجنوب لبنان، بما في كل ذلك من تعقيدات متصلة بالطاقة والأمن الدولي وتقاطعات حرجة ما بين الولايات المتّحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.

الرياض اليوم إختلفت كثيراً عن الرياض التي ألِف المسؤولون اللبنانيون وغير اللبنانيين التعامل معها. الثقل الإقليمي والدولي الذي نجحت الرياض في انتزاعه ألقى على كاهلها مسؤوليات جسام في الحفاظ على أقصى درجات التوازن في السياسات الخارجية، وأرسى قيّماً جديدة في بناء التحالفات. هذه القيّم هي هوية نظام إقليمي جديد تشكّل المملكة مركز الثقل فيه، ويجهد للحفاظ على دور واضح المعالم في نظام عالمي يعيد تعريف مصالحه كل يوم. موقع المملكة اليوم هو نتاج تراكم في الدبلوماسية المسؤولة ارتسمت معالمه الإقليمية مع اتّفاق تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع طهران برعاية صينية في 10 آذار/ مارس 2023 بعد انقطاعٍ دام سبع سنوات. الإتّفاق أتى بعد تأكيدات من القاهرة بأنها لن تدعم أي تحالف إقليمي ضد طهران، وبعد تراجع عمّان عن فكرة إنشاء «ناتو» عربي أو شرق أوسطي. وترسخ موقع المملكة الإقليمي مع رفضها الإنضمام الى الإتّفاق الإبراهيمي قبل تنفيذ القرارا ت الدولية وإقامة الدولة الفلسطينية. أما على المستوى الدولي فقد حافظت الرياض على توازنها خارج الإصطفافات الدولية، من خلال رفض التجاوب مع واشنطن بخفض أسعار النفط أو زيادة الإنتاج لتعويض الحاجة الأوروبية الناتجة عن الحرب الأوكرانية الروسية. ثبات الرياض خارج الإصطفافات الدولية أفضى إلى اختيار واشنطن للرياض مكاناً لعقد اللقاء بين وزير الخارجية الأميركي «ماركو روبيو» ونظيره الروسي «سيرغي لافروف» لبحث إنهاء الحرب في أوكرانيا وبدء تطبيع حقيقي للعلاقات بين الدولتين. وها هي الرياض اليوم تواجه بالتعاون مع مصر والأردن المحاولات الأميركية والإسرائيلية التي أعلنها ترامب لإفراغ غزة من سكانها. يرتبط نجاح الزيارة الرئاسية الى الرياض وبَعدها الزيارة المقبلة ــــــــ التي قال رئيس الجمهورية أنه سيتم خلالها توقيع عدد من إتّفاقيات الشراكة مع المملكة – بإلتزام لبنان السياق الإقليمي الجديد، وبمعنى آخر إظهار القدرة والجدية على إحداث قطعٍ لا عودة عنه مع المرحلة السابقة والتأسيس لمرحلة جديدة فرضتها متغيّرات كثيرة. إتّسمت المرحلة السابقة المعنيّة بغياب القرار اللبناني وتحلل المناعة الوطنية والرضوخ لمعادلات إقليمية على حساب الوحدة الوطنية. لقد فرض حرص المملكة على لبنان في تلك المرحلة إتباع سياسة تقبل الأمر الواقع وتجاهل التّحديات والإستمرار بالدعم على أنواعه، مما أدى الى تحوّل لبنان منصة للصدام مع العالم العربي وإلى توتر كبير في العلاقة مع الرياض وإلى عزلة لبنان وخروجه من النظام العربي. هذا بالإضافة الى تحوّل القضية الفلسطينية إلى ورقة مساومة في خدمة الجمهورية الإسلامية. لقد أفضت «العلاقة الأبوية» مع لبنان في تلك المرحلة الى تغوّل إيران ليس على لبنان وحده بل على سوريا والعراق واليمن وبلوغ تهديداتها دول الخليج العربي، كما أدت الى مزيد من الإهتراء الإداري على مستوى الدولة وتعميم ثقافة الفساد. لن تستطيع المملكة بعد اليوم تجاهل تدمير غزة وجنوب لبنان وجزء كبير من البقاع وضاحية بيروت الجنوبية، ولن تستطيع تجاهل تحلّل القضية الفلسطينية بين احتلال إسرائيلي ومغامرة إيرانية. وبالمقابل لا يستطيع لبنان البقاء في موقع «الأخذ على العاتق» دون التزام واضح بخيار جديد يعبّر عن شراكة حقيقية في المسؤولية مع الدول العربية لمواجهة الأخطار المحدقة بالمنطقة. لن تقوَ المملكة المتمسكة بالقرارات الدولية لإنقاذ فلسطين على دعم لبنان إذا لم يلتزم تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بوقف إطلاق النار ومسك الحدود وبسط سلطة الدولة، بالإضافة الى الإصلاحات التي أصبحت إلزاماً دولياً لمساعدة لبنان إقتصادياً. لن ينتظر اللبنانيون صدور بيان عن اللقاء الرئاسي في الرياض، كما أنهم لن ينتظروا صدور بيان عن القمّة الإستثنائية اليوم في القاهرة، هم يدركون تماماً أن زمن العلاقات الأبوية قد ولىّ إلى غير رجعة وأن بقاء لبنان لا يعني سوى التزامه العربي.
*اللواء