أحمدالجارالله: عن أيِّ سلام يتحدث ظريف… ديبلوماسية “الصفر” أم هيمنة الحرس الثوري؟
عندما يصفُ نائب رئيس الجهمورية الإيراني إسحاق جهانغيري، اقتحام السفارة السعودية في طهران عام 2016 بـ”الخيانة لشعبه”، فإنَّ هذا الاعتراف، الذي يأتي متأخراً خمس سنوات، يدلُّ على أنَّ نظام الملالي لم يصل بعد إلى مرحلة دولة المُؤسسات الحقيقية، إنما هو تيارات عصائبيّة مُتصارعة، ولكلِّ جهة قرارُها، فيما يبقى اللاعبُ الأساسُ الحرس الثوري، الذي كشف وزير الخارجية محمد جواد ظريف، أنه ليس لوزارته أيُّ دور في القرارات التي تهمُّ المنطقة، إنما كان الفاعل الأساسي فيها قاسم سليماني، ومن بعده قيادة الحرس، وأنَّ مُعظم هيكل وزارة الخارجية شأنٌ أمنيٌّ، وأنَّ دور ظريف كان معدوماً أو صفراً.
استناداً إلى هذه الحقيقة، ثمَّة الكثير من الأسئلة المطلوب من طهران الإجابة عليها بوضوح، بل أن تكون مقرونة بالتزامات قابلة للتنفيذ، فالمنطقة، حالياً، تتأرجح بين الحرب والسِّلم، نتيجة مُمارسات الحرس الثوري الاستفزازية في الخليج، والإقليم.
بناءً على هذه المُعطيات، فإنَّ الكلام الذي سمعه محمد جواد ظريف في العواصم العربية التي زارها، وآخرها الكويت، يرمي الكرة في ملعب بلاده، فهل ستستمرُّ على السياسة الانتقامية التي رسَّخها الخميني بعد انقلابه على الشاه محمد رضا بهلوي، أم ستخرج من أسمال ذلك الثوب وتتجه إلى علاقات طبيعية مع جيرانها والعالم؟
نحن هنا في الخليج بتنا على قناعة أنَّ تصريحات المسؤولين السياسيين الإيرانيين ليست محل ثقة؛ نتيجة لتجارب مريرة طوال أربعة عقود من حكم الملالي، بل إنَّ تلك المواقف هي مناوراتٌ لكسب الوقت.
هنا ربما من المُفيد العودة إلى العام 1979، ففي الوقت الذي رحبت فيه كلُّ دول المنطقة بالنظام الجديد، حينذاك، وكان على الخميني أن يرد التحية بأحسن منها، إلا أنه عمد إلى استفزاز دولها، وسعى إلى إشعال الحرب العراقية- الإيرانية، التي استمرت ثماني سنوات، وأوقعت نحو أربعة ملايين بين قتيل وجريح ومشرد في البلدين، وكبدتهما 600 مليار دولار، وذلك لمُجرَّد إشفاء غليله من النظام العراقي، الذي طرده بعدما خرج على أعراف اللجوء السياسي وقواعده، فيما كان بعض قادة النظام يُكثرون من الحديث عن علاقات حسن الجوار مع الإقليم.
في المُقابل، كان يردُّ الخميني على ذلك بتعميم الإرهاب في الخليج، فهو سعى إلى الانتقام من الكويت التي رفضت استقباله، ونفذت خلاياه العميلة سلسلة تفجيرات طالت مواقع مدنية وأبرياء، وصولاً إلى محاولة اغتيال الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله، وليس انتهاء بخطف الطائرات المدنية، بل استمرَّت تلك السياسة بعد رحيله، من خلال خلايا التجسس والإرهاب، وآخرها ما يُعرف بـ”خلية العبدلي”.
نتيجة هذه التجارب المريرة، فإنَّ بناء الثقة بين العواصم الخليجية خصوصاً، والعربية عموماً، وطهران طريقها شاق ووعر، إذ على الأخيرة إثبات أنها تسعى، فعلاً، لعلاقات طبيعية مع جيرانها، وأنها تعمل من أجل ذلك، وهذا صعبٌ، وربما مستحيلٌ، إذ هي لم تتخلَّ، إلى اليوم، عن شعار ما يُسمى “تصدير الثورة”، الذي تعتبر تحقيقه مهمة مقدسة، وصرفت في سبيلها طوال الأربعين عاماً الماضية 150 مليار دولار على ميليشيات إرهابية في المنطقة عموماً، ورغم كلِّ الفشل الذي مُنيت به، لاتزال تراهن على السراب في إمكانية تحقيق ذلك الهدف.
للأسف إن الطغمة الحاكمة في إيران لم تتعلم من دورس الماضي، إذ بعد فشلها طوال 18 عاماً في العراق، هاهي الميليشيات الشيعية -التي وظفتها في مشروع مذهبي- مستمرة في تفتيت بلاد ما بين النهرين، بينما في لبنان لم يستطع “حزب الله” رغم كلِّ إرهابه أن يُقيم دولته الإسلامية التي أعلنها في بيان تأسيسه، بل إن ممارسته جعلت الطائفة الشيعية تدفع ثمناً باهظاً جداً، أما في اليمن -التي دخلتها إيران من نافذة التفرقة الطائفية- فهاهي اليوم تحصد مرارة خيبتها، فلا هي اقتحمت الحدود السعودية ووصلت إلى الأماكن المُقدسة وقصور آل سعود، كما كانت تعلن طوال سنوات، ولا استطاعت أن تفتت عضد المملكة، فيما طائراتها المُسيَّرة وصواريخها تسقطها الدفاعات الجوية، ولا تُغيِّر من الواقع شيئاً.
أياً كانت الاعتبارات التي تتحكم بالسلوك السياسي الإيراني، فلا حلَّ في المنطقة إلا على أسس حُسن الجوار، الذي ينطلق من حقيقة أنَّ وحدة القرار في طهران يجب أن تكون عبر الهياكل القانونية، وأن تتخلى عن مشروعها التوسعي، وعقيدة “تصدير الثورة” والكف عن التدخل بشؤون الدول المُجاورة، أما بغير ذلك، فكلُّ ما يحدث اليوم، أكان من خلال بالونات المناورة السياسية، أو المُفاوضات غير مباشرة مع الأميركيين، فهو من لوازم المعركة الانتخابية الرئاسية، التي لا شكَّ يفوز فيها من يتحكم بالأمن والعسكر والاقتصاد، وكلُّ هذا بيد الحرس الثوري.