متابعات

مواقع أثرية ودينية في مرمى رصاص المقاتلين .. تيغراي جوهرة ثقافية وتاريخية تئنّ تحت الحصار

حملة عسكرية تعهّد أبي أحمد بأن تكون سريعة ومحددة الأهداف لكن العنف لا يزال متواصل.

مرّت ستة أشهر على إرسال رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد قوات إلى تيغراي في إطار حملة عسكرية تعهّد بأن تكون سريعة ومحددة الأهداف. لكن العنف لا يزال يتواصل فيما يتحدث تقرير تلو الآخر عن مجازر وجرائم اغتصاب واتّساع رقعة الجوع، كما تئن المواقع التراثية والدينية تحت الحصار.

وأمضى الحاج سراج محمد خمسة عقود في إدارة مسجد النجاشي الشهير في منطقة تيغراي في شمال إثيوبيا حيث بقي يرحّب بالمصلين حتى خلال فترات الصراعات والمجاعة. لكن عندما اندلعت الحرب العام الماضي في الإقليم، شهد على أمر كان يظنه مستحيلا، إذ استحال المسجد، وهو من الأقدم في أفريقيا هدفا لرصاص المقاتلين.

وفي أواخر نوفمبر، سار جنود إثيوبيون وإريتريون في بلدة نجاش حيث يقع المسجد متجهين جنوبا نحو العاصمة الإقليمية ميكيلي.

واستمع سراج برعب لأصوات القذائف التي كانت تنهال على قبة المسجد وقاعة الاجتماعات، تاركة المكان مليئا بالغبار والأنقاض.

وأشار هذا الرجل البالغ 78 عاما في تصريحات صحافية “ليس نحن فقط، بل المسلمون في كل أنحاء العالم مصدومون لما حدث”.

ومرت ستة أشهر منذ اندلاع القتال في تيغراي، والعالم على دراية بالمذابح والاغتصاب الجماعي والأشكال الأخرى من المعاناة الإنسانية التي تسبب بها.

ومع استمرار الحرب بلا نهاية تلوح في الأفق، يدق خبراء ناقوس الخطر بشأن مصير أماكن العبادة في المنطقة بما فيها الأديرة والكنائس المحفورة في الصخور.

وقال ألولا تيسفاي أسفاها وهو مواطن من تيغراي وباحث في التراث الثقافي والتخطيط الحضري في جامعة تسوكوبا اليابانية “أشعر أحيانا بالسوء للتحدث عن التراث لأن القصص التي نسمعها حول ما يحدث للناس أسوأ بكثير”. وأضاف “لكن كونه جزءا من التاريخ العام، فإن التراث مهم جدا”.

وأرسل آبي أحمد قوات إلى تيغراي في نوفمبر الماضي لإطاحة الحزب الحاكم الإقليمي الذي كان مهيمنا في السابق، وهو جبهة تحرير شعب تيغراي.

وتتهم حكومته جبهة تحرير شعب تيغراي ببدء الحرب بعد مهاجمة معسكرات للجيش كما تتهمها بتعريض المدنيين والمواقع التراثية للخطر.

وهناك مخاوف من تعرض مواقع التراث الأخرى في تيغراي لأضرار مماثلة أو حتى أسوأ منها.

وأوضح ألولا وفولبرت سميت، وهو مؤرخ أعراق يركز على شعب تيغراي في جامعة جينا في ألمانيا، إنهما تلقيا تقارير عن إطلاق نار وقصف على دير ديبري دامو الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس والواقع في شمال مدينة أديغرات.

وقد أعرب أكثر من 20 باحثا عن قلقهم بشأن مصير الدير في رسالة مفتوحة في يناير دعوا فيها إلى “إنقاذ تراث تيغراي الثقافي”.

وجاء في الرسالة “مما لا شك فيه أن الصراع يتسبب بأضرار جسيمة.. لكن نظرا إلى أن معظم خطوط الاتصال مازالت مقطوعة والمعلومات الواردة من المنطقة ضئيلة، من الصعب تقييم الحجم الفعلي للخسائر”.

وفي سائر أنحاء تيغراي، حوّلت المواقع الدينية إلى مسارح جرائم مروعة.

وفي بلدة دينغولات، اختبأ المئات من السكان في كنيسة أرثوذكسية عمرها قرون فيما قتل جنود إريتريون بالرصاص أكثر من 160 مدنيا في أواخر نوفمبر، حسب تقارير إعلامية.

وفي الوقت نفسه تقريبا، قتل جنود إريتريون المئات من المدنيين في مدينة تيغراي القديمة في أكسوم، وهي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، من بينهم مسيحيون أرثوذكس كانوا يشاركون في مهرجان تقليدي، وفقا لهيومن رايتس ووتش.

وقال سميت إن هذا النوع من العنف يحطم عرفا سائدا منذ فترة طويلة في إثيوبيا، تعتبر بموجبه الكنائس حتى في زمن الحرب، أنها “نوع من العالم الموازي” حيث تكون “الحماية مطلقة”.

وأضاف “لكن يبدو أن الرسالة الآن كما يفهمها المؤمنون التقليديون وفقا لتقاريري: نحن لا نهاجم القادة، بل نهاجم المجتمع. لم يعد هناك أماكن مقدسة ولا أماكن للجوء ولا خيارات لتجنب حرب”.

والمواقع التراثية الأخرى التي أفيد بأنها تضررت جراء القتال غير معروفة كثيرة لكن الباحثين لا يزالون يرون أن تدميرها يحمل الأهمية نفسها.

وقال ألولا إن هجوما على كنيسة ليغات كيركوس قرب الحدود مع إريتريا، كان على الأرجح جزءا من محاولة جنود إريتريين للقضاء على التطورات التي حققتها تيغراي في الأراضي التي تتنازع عليها الدولتان منذ فترة طويلة.

وأشار المؤرخ والخبير في الشؤون الإثيوبية إيلوي فيكيه إلى أنه إذا تم تأكيد ذلك، فإن حجم الضرر الذي لحق بالمواقع التراثية سيكون غير مسبوق.

وأوضح أن التعافي الصحيح لن يتطلب فقط إصلاح المواقع المادية بل أيضا، بطريقة ما، إصلاح العلاقات بين الدولة والسكان.

وأشار إلى أن “الأجيال المقبلة ستكون قادرة على سرد قصة ما حدث خلال هذا الوقت، وربما يمكنها أخذ العبر من هذه المشكلات بطريقة تؤدي إلى إحلال السلام”.

وتحظى منطقة تيغراي بوزن ثقافي واقتصادي وسياسي هائل احتفظت به عبر التاريخ، وهي إحدى المناطق الإدارية العشر التي تتألف منها إثيوبيا المقسمة وفق نظام “فيدرالية إثنية”.

ومعظم سكانها من أقلية التيغراي التي تضم حوالي ستة ملايين نسمة، ما يساوي أقل من 6 في المئة من مجموع الإثيوبيين البالغ عددهم 110 ملايين نسمة.

ولعب إقليم تيغراي دورا محوريا في تاريخ إثيوبيا ولاسيما على الصعيد الديني، وهو اليوم بفعل تراثه إحدى الوجهات السياحية الكبرى في البلاد.

كما يعدّ الإقليم مركزا اقتصاديا حيويا لاحتوائه على منطقة زراعية تنتج مزروعات مهمة مثل السمسم المعد للتصدير، كما تضم صناعات تنتج على المستوى الوطني. لكن تقارير ذكرت أن مواقع صناعية بارزة، بما فيها أكبر معمل للنسيج في إثيوبيا، تعرّضت للنهب على أيدي قوات إريترية خلال النزاع.

وعلى صعيد سياسي وعسكري، هيمن إقليم تيغراي عبر جبهة تحرير شعب تيغراي على الهيئات السياسية والأمنية في إثيوبيا بين 1991، حين أسقطت دكتاتورية الحكومة العسكرية المؤقتة لإثيوبيا الاشتراكية، وحتى وصول أبي أحمد إلى السلطة عام 2018.

وحُكمت إثيوبيا خلال الجزء الأكبر من تلك الفترة من قبل زعيم تيغراني ملس زيناوي.

لكن منذ تولى أبي المتحدّر من عرقية أورومو، السلطة بدأ إبعاد قادة الجبهة تدريجيا من مناصب المسؤولية في أديس أبابا، فانتقلوا إلى المعارضة، ما حدّ من نفوذها السياسي، فانكفأت إلى تيغراي حيث أعادت ترميم شرعيتها في تحد لأديس أبابا من خلال تنظيم انتخابات لم تصرّح السلطات بها في سبتمبر.

*العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى