أحمد الجارالله :الثورة والثروة لا تلتقيان يا تجار الدم وتحرير فلسطين ليس بالعطور الفرنسية والسيجار الكوبي
إنها ثورة المستحيل التي توالف بين نقيضين لا يجتمعان أبداً كي ينتجا واقعاً يمكن التعويل عليه. هذه هي الحقيقة التي يجب أن يعترف بها الجميع بدلاً من الدوران في حلقة الدم والدمار المستمرة منذ العام 1947 تاريخ صدور القرار الدولي 181 لتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، فلقد أثبتت التجارب طوال سبعة عقود أن الزعماء الفلسطينيين ما كانوا يسعون إلى تحريرأرضهم، لذلك ضيعوا الفرصة تلو الأخرى، ولجأوا إلى الاستثمار بدماء شعبهم لتكديس ثروات.
هذه الحقيقة قالها لهم الجنرال الفيتنامي جياب عندما زار بيروت في سبعينات القرن الماضي للاطلاع على أحوال الثورة الفلسطينية، فلما شاهد حياة البذخ والرفاهية التي يعيشها قادة تلك الفصائل والسيارات الفارهة والسيجار الكوبي والبدل الإيطالية الفاخرة والعطور الفرنسية باهظة الثمن التي يتنعمون بها، وقارنها بحياته مع ثوار الـ”فييتكونغ” في الغابات الفيتنامية، أعلنها من دون مواربة: “لن تنتصر ثورتكم”!
فسألوه: لماذا؟
أجاب: ” لأن الثورة والثروة لا تلتقيان، فالثورة التي لا يقودها الوعي تتحول إرهاباً، والثورة التي يغدق عليها المال يتحول قادتها إلى لصوص. وإذا رأيت أحداً يدعي الثورة ويسكن قصراً أو شقة فاخرة، ويأكل أشهى الأطباق ويعيش في رفاهية وترف، وبقية شعبه تسكن المخيمات وتستجدي المساعدات الدولية للبقاء على قيد الحياة، فاعلموا أن القيادة لا ترغب في تغيير الواقع، فكيف تنتصر ثورة قيادتها لا تريدها أن تنتصر”؟
هذه الحقيقة ماثلة أمام العرب والفلسطينيين منذ 73 عاماً، اذ لم نشاهد قائداً من قادة الفصائل سكن مخيماً، أو عاش كبقية أبناء شعبه، بل خبرناهم ينعمون بالرفاهية الى أبعد الحدود، وأذكر اننا قرأنا خلال حصار إسرائيل للعاصمة اللبنانية بيروت عام 1982، تصريحاً لأحد مستشاري ياسر عرفات حين سُئل عن شح المياه في الحصار، قال: “لا مشكلة لدينا بالماء فنحن نستحم بماء صحة”، فيما كان عشرات الآلاف على حافة الموت عطشاً حينها.
هذه الثورة التي تحولت منذ تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في أوائل ستينات القرن الماضي، مجموعة من الفصائل وصلت الى نحو 20 منظمة، لم تتفق يوماً على موقف، بل كل واحدة منها كانت تتبع فريقاً أو دولة عربية وإقليمية، وكلها سقطت في وحل الإغراءات، بل إن بعضها كان عميلاً لإسرائيل التي كانت تسعى الى توسيع سيطرتها على كامل فلسطين، فوظفت تلك الجبهات في مشروعها هذا، عبر جعلها تنفذ عمليات إرهابية في العالم ويأتي الرد بمزيد من التوسع والاحتلال تنفيذاً لما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول عشية حرب العام 1967 في الاجتماع الذي اتخذ فيه قرار بدء المعركة شارحاً المخاطر والعزلة المستقبلية التي ستواجه إسرائيل بما فيها تخطيطها الستراتيجي: لنفترض أني قبلت وكسرنا اليوم قوة العدو، إلا أنه سيبدأ من الغد ببنائها من جديد، لأننا نحن أيضًا سنكون قد خسرنا من قوتنا.
وإذّاك، سنضطر كل عشر سنوات إلى القتال، وسنبقى نخوض حروباً في المستقبل من أجل أن ينسى العرب الأراضي التي اُحتلت في الحروب السابقة ويفاوضوننا على الأراضي المحتلة الجديدة، وسنبقى بحاجة الى حجة تدفعنا إلى خوض الحرب”، وهو ما قدمته اليها تلك الفصائل منذ زمن طويل.
لقد نسي الفلسطينيون قضيتهم حين خاضوا حرباً ضد الحكم في الأردن، مستندين إلى شعار أن طريق فلسطين تمر في عمان، وخطفوا الطائرات المدنية لتفجيرها في الصحراء الأردنية، كي يلفتوا نظر العالم الى قضيتهم، كما زعموا، لكنهم بدلا من ذلك استفزوا العواصم كافة، وانحاز الغرب الى جانب إسرائيل أكثر.
كذلك فعلوا في لبنان الذي احتلوا جزءاً من أرضه وأطلقوا عليها “فتح لاند”، وفي الحرب الأهلية قال أبوإياد كلمته الشهيرة: “إن طريق فلسطين تمر بجونية”، مبرراً المجازر ضد الشعب اللبناني، فيما كانوا قد أقاموا سلطة الأمر الواقع في دولة مستقلة قبلت دعم ثورتهم، لكن بدلا من رد الجميل دمروا لبنان وأورثوه بعدها لإيران كي تكمل تدميره.
اليوم وبعد انتهاء الحرب في غزة، التي دفع فيها الأبرياء العزل الثمن باهظاً، لم يتوان هؤلاء الزعماء عن استثمار تلك المقتلة التي افتعلوها في تسول المزيد من الأموال، من الدول العربية، ولقد كان اسماعيل هنية واضحاً في خطبته اول من امس حين دعا الى التبرع لإعادة إعمار غزة، فيما كال المديح والشكر لإيران التي زودته بالسلاح، كما قال.
استناداً إلى كل ما تقدم نسأل هؤلاء: من علينا أن نساعد؟ هل السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليا، والتي تسعى الى إيجاد حل وفق المشاريع الجدية المطروحة، وأهمها حل الدولتين التي جدد الرئيس الأميركي جو بايدن تأييده له، أم تلك الفصائل التي لا هم لها سوى الاستثمار بالدم والدمار، فيما تطبق مقولة الجنرال جياب الذي تغلب على استعمارين، الفرنسي والأميركي، وحرر بلاده؟