أكرم مكناس : الصـــــادق كافــــــــر
أتاحت لنا وسائل التواصل الحديثة من بريد إلكتروني وواتساب وتويتر مجالات أوسع وأسرع للاطلاع والمعرفة، والتوقف عن صورة أو رسم تعبيري أو مقولة تعكس فلسفتنا وفهمنا للحياة ومجريات الأحداث التي نعايشها، وتختصر بكثافة موقفنا ورأينا وما نفكر به ونريد قوله، وغالبا ما يثير إعجابنا عبقرية الأشخاص الذين أنتجوا هذه الصور والرسومات والمقولات، لدرجة أنني لا أحتفظ بها في هاتفي فقط، بل أقوم بطباعتها والاحتفاظ بها.
من الأوراق التي احتفظ بها على مكتبي مقولات وصلتني أمس كرسالة بريد إلكتروني للمفكر الدكتور علي شريعتي. كم هو عبقري هذا الشخص الذي قال قبل أكثر من خمسين عاما ما نريد قوله الآن بشأن كثير من القضايا، واسمحوا لي في هذا المقال أن أعرض بعض مقولاته وأعلق عليها.
وصف شريعتي حالنا الراهن بعبارة قصيرة مكثفة «لا فائدة من ثورات تنقل الشعوب من الظلم إلى الظلام». لقد كان شريعتي من أشد المعارضين لحكم شاه إيران، ويقال إن فكره ومؤلفاته أسهما في قيام الثورة الإيرانية وخلع الشاه في العام 1979، لكن شرعتي كان توفي قبل ذلك بعامين، ولو قدر له أن يحيا ليرى بعينه ما فعلته الثورة بالشعب الإيراني ربما لكان اعتذر من الشاه.
لم تنقل ثورة الملالي في إيران الشعب الإيراني وحده من الظلم إلى الظلام، بل إن إصرار قادة هذه الثورة على تصديرها للمنطقة جعل الكثير من شعوبها يشاركون الشعب الإيراني معاناته، فاليمني والسوري واللبناني والعراقي اليوم يكابد شظف العيش، وبات جل أحلامه سد رمقه ورمق عائلته والحصول على ربطة خبز أو خدمة كهرباء منتظمة تخرجه من الظلام الذي غرق فيه معيشا وفكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
ثورات أخرى نقلت الشعوب من الظلم إلى الظلام، كما حدث في ليبيا عندما انهار نظام القذافي فكان أول قرارات الثورة أسلمة الدولة والمجتمع بما في ذلك المصارف وغيرها، أيضا انشغلت تونس العلمانية في تعديل قوانين عصرية ذات صلة بالميراث وغيره، وثارت حركات إسلامية في الصومال على حكومة محمد سياد بري بدعوى الفساد لكنها أدخلت الصومال في أتون نزاعات لا تنتهي، ونفس السيناريو نراه الآن في مالي. وحدها مصر استطاعت التخلص من ظلام التطرف سريعا والعودة إلى عصر التنوير، رغم أنها دفعت فاتورة غالية وأهدرت سنوات من التنمية.
الخروج من الظلم إلى الظلام يعني عمليا الوقوع في غياهب الظلم والظلام معا، لأن الظلام يخلق الظالمين، وخطرهم يضاعف الجهل أضعافا، والظلام يوقف التقدم والحياة الرغيدة وكل ما فيها من فيها من معاني جميلة خلقنا الله تعالى لنعيش بها وعلى أملها. وأنا لن أقبل أن أعيش في ظلام بعد أن رأيت النور، لا أنا ولا أصدقائي ولا من أحب، ولا أي إنسان آخر، أريد أن أكون جزءا من فريق التقدم والنور والعلم، وأن أستطيع محو الظلم وإضاءة حياة الناس.
من حسينية في إيران طرح شريعتي رؤيته للإسلام بأسلوب جدي، مستندا إلى علم الاجتماع. أدخل بعد العلوم الاجتماعية ساحة التحقيق وشرح الإسلام، ومن خلاله نجح شريعتي في استقطاب الشباب المتأثرين بمذاهب فكرية أخرى، فتعلقوا به. كان يحضر دروسه وخطبه نحو ستة آلاف من الطلبة الجامعيين والخريجين، لكن ذلك لم يعجب السلطات طبعا، فأغلقت الحسينية وضيقت عليه بل وسجنته.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، لكن الشعوب مسكينة لا تقرأ. وكأن شريعتي يتحدث عن واقع ما يسمى بدول الربيع العربي عندما يقول «النظم الثورية الحديثة لا تسلم مستقبل الثورة بعد الانتصار السياسي التمهيدي والسطحي في يد الديمقراطية المرتعشة، ولا تعهد به إلى الأكثرية التي لا تزال بلا رأي، وإذا كان لديها فهو رأي رجعي، كيف إذن، والحديث عن المجتمعات المتخلفة التقليدية التي حدثت فيها ثورة، حيث لا يزال الروح الجمعي الأسري والقبيلي والقومي جائما وحاكما على الاستقلال الفردي وفي هذه المرحلة الاجتماعية يكون لكل جماعة رأي وصوت واحد، والباقي كلهم رؤوس».
وتابع في مكان آخر: إنه لمن سوء الحظ الآن ندرك ما يراد بنا، فنصرف عما ينبغي أن نفكر فيه كأفراد ومجتمعات، فيصيب غيرنا الهدف، ونحن لا نشعر! ومن أجل هذا قلت: إنك إذا لم تكن حاضر الذهن في الموقف فكن أينما أردت. والمهم أنك لم تحضر الموقف، فكن أينما شئت، واقفا للصلاة، أو جالسا للهو، فكلاهما واحد.
يحملنا الدكتور شريعتي جميعا مسؤولية التخلص من أمراضنا والنهوض بمجتمعاتنا، فهو يرى أن الإسلام أول مدرسة اجتماعية تعتبر المصدر الحقيقي، والعامل الأساسي، والمسؤول المباشر عن تغيير المجتمع والتاريخ، ليست الشخصيات المختارة، كما يقول (نيتشه)، وليس الأشراف والأرستقراطيون، كما يقول أفلاطون، وليس العظماء والقادة، كما يقول (كارليل وإمرسون)، وليس أصحاب الدم الطاهر، كما يقول (ألكسيس كارل) وليس المثقفون أو رجال الدين، بل عامة الناس.
ويقول أيضا: عندما يشب حريق في بيت ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق والانصراف عنه إلى عمل آخر هو الاستحمار وإن كان عملا مقدسا. فقيمة كل إنسان بمقدار معرفته وفهمه لمعتقداته، لأن الاعتقاد وحده ليس فخرا، وإذا كنا نعتقد بشيء لا نعرفه جيدا فلا قيمة في ذلك، بل القيمة تكمن في المعرفة والفهم الدقيق لما نعتقده. وفي رسالته الأخيرة لوالده كتب د. شريعتي أنه كرس حياته لمهمتين: أن يثبت للمتدينين التقليديين أن الإسلام ثوري، وأن يقنع الثوريين من غير المتدينين بضرورة الرجوع إلى الإسلام.
أضع الأوراق التي فيها الكثير من مقولات الدكتور شريعتي جانبا، وأفكر عميقا، وأحمد الله تعالى أني أعيش في منطقة الخليج العربي التي عرفت كيف تنير حاضر ومستقبل أبنائها، وأن تحارب الفكر المتطرف الذي لا هم له سوى الوصول للسلطة بأي طريقة كانت، بصناديق الانتخابات أو بالتفجيرات، لا يهم، المهم التحكم بالعباد بدعوى تطبيق شرع الله، وأن تخط طريقها إلى التنمية بسرعة وثقة، وأن ترسم معالم حضارة متقدمة من خلال أبراج وطرق وجسور وحدائق وجامعات خرجت من الصحراء إلى السحاب، وباتت مقصدا لمعظم البشر ونموذجا لكل الدول الباحثة عن تنمية مستقرة مزدهرة.