السيـــــــد زهـــــــره: .. لكن كورونا لن ينزع الحب من القلوب
محنة كورونا المؤلمة القاسية التي يعيشها العالم كله تركت تأثيرات عميقة بعيدة المدى على كل المستويات الاستراتيجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية.
هذه التأثيرات ستعيش مع العالم سنوات، وربما عقودا طويلة قادمة.
بعض ما خلفته المحنة من تأثيرات ونتائج إيجابي, وبعضها سلبي, وبعضها محزن ومؤلم. يصح هذا أكثر ما يصح فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والعلاقات الإنسانية بين البشر.
من التأثيرات الإيجابية مثلا اجتماعيا وإنسانيا أن المحنة عمقت لدى الكل الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الأسرة وكل من نحب وتجاه المجتمع بشكل عام.. عمقت الإحساس بأننا كأفراد مسؤولون بسلوكنا وبالتزامنا الشخصي عن حماية أسرنا ومن نحب والمجتمع وعن ضمان سلامته.
في الوقت نفسه من الآثار والنتائج التي تعتبر محزنة إنسانيا أننا لم نعد نستطيع التعبير عن حبنا أو مودتنا كما اعتدنا, أي عن طريق العناق أو المصافحة باليد.
أقول هذا وقد قرأت في الفترة الماضية ملخصا لكتاب صدر حديثا وعددا كبيرا من المقالات والتحقيقات كلها تتحدث عن موضوع واحد هو: هل انتهى إلى الأبد عصر المصافحة باليد؟
قد تبدو هذه قضية بسيطة لا تستحق كل هذا الاهتمام من خبراء ومؤرخين وباحثين, لكنها ليست كذلك.
حين نتحدث عن المصافحة باليد نتحدث عن سلوك تأصل لدى البشر منذ آلاف السنين تعبيرا عن الحب والمودة والثقة والاحترام.
أحد التقارير التي قرأتها بهذا الخصوص يسجل: «تظهر صور للمصافحة باليد أو إبراز اليد مفتوحة في حضارات كثيرة، كالحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين والإغريق، وتجسدها أعمال فنية وأدبية تعود لآلاف السنين. ويشمل ذلك نقوشا حجرية بارزة للبابليين، فضلا عما ورد بملاحم هوميروس».
البعض يقول إن المصافحة باليد ظهرت في البداية, في أوروبا على الأقل, كي تكون دليلا على أن الشخص لا يحمل سلاحا ولا يكنّ نوايا عدوانية. حتى إن كان هذا صحيحا فإنها لم تعد كذلك على امتداد مئات السنين بعد ذلك. أصبحت تعبيرا عن أواصر المحبة والود والنوايا الطيبة بين البشر.
فجأة مع هذا الوباء اللعين أصبحت المصافحة باليد جريمة لا تغتفر ومرادفا للاستهتار بالحياة وبالآخرين. وصل الأمر إلى حد أن يقول أحد الخبراء الأمريكيين: «حين تمد يدك لشخص ما الآن فإنك تسدد نحوه سلاحا بيولوجيا». أي أنك إذا صافحت شخصا فأنت في الحقيقة مجرم ترتكب جريمة الشروع في القتل.
بالطبع من المفهوم للكل الأسباب والدواعي الوجيهة للنصح بالتوقف عن المصافحة باليد في هذه الظروف الصعبة.. لكن الأمر بالتأكيد محزن للغاية.
كثيرون يقولون اليوم إن البشرية يجب أن ترتب نفسها على أن عصر المصافحة باليد قد انتهى إلى الأبد.. أي أنه لن يكون بمقدور البشر بعد الآن العودة إلى المصافحة. ويقولون إن على البشر أن يبحثوا عن وسيلة أخرى للتحية.
البعض يريد أن يعطي للموضوع بعدا استراتيجيا وسياسيا فيما يخص عصر ما بعد المصافحة. من هؤلاء كانينا بلانشارد، وهي أستاذة في جامعة غرب أونتاريو. تقول: «الإنجليزية هي اليوم لغة الأعمال، ولذا فالمتعارف عليه هو التصافح بالأيدي خلال عقد الصفقات واللقاءات. لكن باعتبار أن عدد سكان الصين والهند معا أكثر من نصف سكان الكوكب، والكثير من سكان البلدين يلجؤون إلى المصافحة، لكن لديهم وسائل أخرى للتحية، فيمكن توقع إلى أين تسير الأمور باعتبار أن الوسائل الأخرى أكثر قربا لثقافتهم من المصافحة باليد». وتضيف: «مع ازدياد النفوذ العالمي لمناطق مثل الصين والهند والشرق الأوسط على صعيد الأعمال، فقد تصبح عادات تلك البلاد هي المتعارف عليه دوليا».
شخصيا عندي يقين أن هذه المحنة سوف تزول، وأن هذا الوباء سوف ينتهي أيا كان الوقت الذي سيستغرقه ذلك, أشهرا أو سنين، وستنتهي معه مثل هذه الآثار السلبية. أقول هذا لأن البشرية سبق لها أن واجهت أوبئة أشدّ قسوة وفتكا من كورونا بكثير, وانتهت وانتهى معها تأثيراتها المؤلمة.
سيعود البشر حتما إلى عاداتهم الإنسانية الجميلة، منها المصافحة باليد.
وعلى العموم, فيروس كورونا يقتل البشر ويصيب البشر ويسبب المعاناة والألم للبشرية اقتصاديا واجتماعيا. لكن كورونا لا يمكن أن يقتل الحب أو ينزعه من قلوب البشر.
وطالما بقي الحب والمشاعر الإنسانية النبيلة الجميلة مستقرة في القلب وفي الوعي والوجدان, فليس مهما الطريقة التي نعبر بها عن ذلك.
ألا يقال إنه «من القلب للقلب رسول»؟
هذا صحيح. طالما الحب في القلب والمشاعر الطبية الجميلة مستقرة في الوعي والوجدان، سيكون هناك «رسول» ينقلها إلى من نحب حتى من دون مصافحة ومن دون حتى أن نتحدث أو نفصح علنا عن حبنا.