رأي في الحدث

جعفـــــــر عبــــــــاس : سجون تجعلك تشتهي الحبس

كان مقال أمس عن الأمريكي مارتن كوستا، الذي غادر السجن بعد ثبوت براءته من تهمة رمته خلف القضبان بضع سنوات، ثم نال تعويضا قدره 4 ملايين ومائة ألف دولار، بواقع أكثر من نصف مليون دولار عن كل سنة قضاها في السجن (يعني حاله أفضل حتى من بعض الوزراء العرب الذين لا تصل رواتبهم في السنة إلى ربع ذلك المبلغ، وهم بحاجة إلى مشجعي كرة قدم مصريين يقولون لهم: قاعدين ليه ما تقوموا تروحوا). وقد تحسرت على شبابي وما لحق بي من ظلم لأن حكومة جعفر نميري حبستني ثمانية أشهر من دون أن توجه لي أي اتهام، ولو طالبت بتعويض عن تلك الفترة حتى من الحكومة التي حلت محل نميري لأعادوني إلى السجن مجددا.

واليوم سنبقى في هذه السيرة التي تفتح النفس، أي سيرة السجون ذات العائد المجزي، ونبدأ بسجن ليوبين في النمسا وهو برج زجاجي شاهق فيه غرفة خاصة بكل سجين وبالغرفة تلفزيون ومكتبة وألعاب الكترونية ولو زهج السجين يستطيع أن يقضي ساعات وهو يتفرج على المناظر الطبيعية عبر الجدران الزجاجية. يعني السجن فندق بس لا تستطيع ان تغادره بـ«مزاجك». ولو كنت تريد قضاء شهر عسل بكلفة رمزية سافر وعروسك إلى البلدة التي فيها السجن، وابحثا عن كلب أو قط ضال ويقوم كل واحد منكما برمي كذا حجر باتجاه ذلك الحيوان (مع الحرص على عدم وصول الأحجار إليه).. ستأتي الشرطة خلال ثوان.. ثم خلال أيام: مبروك حكمنا عليكما بالسجن مدة أسبوعين.. والسجن مسموح فيه ببقاء كل زوجين صدر بحقهما حكم بالسجن معا.. وتعيشان ببلاش في سجن فندقي ثم يتم إبعادكما عن البلاد بوصفكما مجرمين.. ومن مزايا الإبعاد أن الحكومة تتحمل كلفة تذكرة العودة.

في سجن أرانجويز في إسبانيا هناك غرف عائلية.. يعني أنت حكموا عليك بالسجن عشرين سنة، بعد شهر من الزواج.. ستغادر السجن وعندك 4 أو 5 عيال بالحلال لأن من حق المدام والعيال الإقامة معك ومغادرة السجن والعودة إليه «على كيفهم».. وفي جزيرة باستوي في النرويج سجن صديق للبيئة يتم فيه توليد الطاقة الشمسية ويتولى السجناء إعداد طعامهم بأنفسهم و…. (عقبال عندك) ممارسة رياضات مثل ركوب الخيل والتنس والسباحة.. بصراحة هذه السجون التي تفتح النفس دعوة صريحة لارتكاب الجريمة طلبا للعيش السهل، فإذا كنت «مُقطّعا مبهدلا» ورغيف الخبز في تلتلة فما الذي يمنعك من ارتكاب جنحة لدخول سجن كهذا؟ ولهذا لا بد أن أنقلكم إلى سجون «شكل تاني». أذكر أنني قمت بترجمة حلقات عن سجون بوليفيا لعرضها في أحد برامج قناة بي بي سي خلال عملي فيها، وأصبت خلال الترجمة بهيجانات متكررة في المثانة والقولون: أولا عليك شراء موقع تنام فيه.. فكل قسم من السجن يدار بواسطة «زعيم» ويكون هذا الزعيم عادة من الصنف البلدوزر الذي قتل 3 أو 7 أشخاص.. ما عندك فلوس تنام في أماكن مكشوفة في بلد تنهال فيه الأمطار كالسياط لنحو تسعة أشهر في السنة.. وتشتري طعامك وملابسك.. وإذا كنت مقطوعا من شجرة وليس هناك من يأتيك بنقود فاعمل أجيرا لدى الزعيم أو أحد معاونيه، وإذا قلت «كاني ماني» قد يكون مصيرك القتل أو عاهة مستديمة.

وبوصفي من أرباب السوابق ومرتاد سجون، فإنني اشهد بان السجن الذي كنت فيه في السودان كان وسطا بين السجون الأوروبية وسجون بوليفيا.. يعطونك قطعة من الحصير وبطانيتين تنام بها على الأرض ووجبتين أي كلام يوميا.. ولكن لم تكن هناك عصابات تسيطر على السجن (ربما لأن السجناء السياسيين يحبسون في أقسام خاصة كي لا ينشروا «سمومهم» بين بقية السجناء).. لم يكن الحال سيئا جدا.. يعني نص، نص.. بس لن أغفر لهم إذلالي خلال الأشهر الأولى من السجن بتزويدي بقصرية (نونية) كانت دورة المياه الخاصة بي في الزنزانة (ما علاقة ذلك الوعاء السخيف بـ«القصور» حتى يكون اسمه مشتقا منها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى