رأي في الحدث

جعفـرعبـاس : ذبح الأخلاق في محراب التجارة

أصاب‭ ‬الشاعر‭ ‬المصري‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬الذهول‭ ‬والعجب‭ ‬عندما‭ ‬سمع‭ ‬بالغواصة‭ ‬التي‭ ‬تسير‭ ‬تحت‭ ‬الماء‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الأعين‭ ‬وتقدر‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬أساطيل‭ ‬العدو‭ ‬وضربها‭ ‬وتدميرها،‭ ‬وكتب‭ ‬قصيدة‭ ‬مطلعها‭: ‬ودبابة‭ ‬تحت‭ ‬العباب‭ ‬بمكمن‭/ ‬أمين‭ ‬ترى‭ ‬الساري‭ ‬وليس‭ ‬يراها‭/ ‬هي‭ ‬الحوت‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الحوت‭ ‬منها‭ ‬مشابه‭/ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬فولاذًا‭ ‬لكان‭ ‬أخاها‭ (‬مازلت‭ ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬مدرس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬إن‭ ‬الكلمة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القصيدة‭ ‬تكون‭ ‬بالتنوين‭ ‬بالكسر‭ ‬و«دبابةٍ‮»‬،‭ ‬وبرر‭ ‬ذلك‭ ‬بأنها‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬‮«‬ورُبّ‭ ‬دبابةٍ‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬الشاعر‭ ‬حذف‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬رُبّ‮»‬‭ ‬للضرورة‭ ‬الشعرية،‭ ‬فسألته‭: ‬هل‭ ‬أخبرك‭ ‬الشاعر‭ ‬بذلك‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ -‬أي‭ ‬المدرس‭- ‬قرر‭ ‬ذلك؟‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬نلت‭ ‬عقوبة‭ ‬جسمانية‭ ‬فادحة‭).‬

المهم‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬شوقي‭ ‬كان‭ ‬مدركا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاختراع‭ ‬المذهل‭ ‬أداة‭ ‬دمار‭ ‬وفناء‭ ‬فأنهى‭ ‬قصيدته‭ ‬بقوله‭: ‬وأفٍ‭ ‬على‭ ‬العلم‭ ‬الذي‭ ‬تدَّعونه‭/ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفوس‭ ‬رداها،‭ ‬أي‭ ‬بئس‭ ‬العلوم‭ ‬والمخترعات‭ ‬التي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬قتل‭ ‬الناس‭. ‬ومنذ‭ ‬صباي‭ ‬وهذا‭ ‬البيت‭ ‬عالق‭ ‬بذاكرتي،‭ ‬أستعيده‭ ‬كلما‭ ‬سمعت‭ ‬بمكوك‭ ‬الفضاء‭ ‬والهاتف‭ ‬النقال‭ ‬وطائرة‭ ‬ستيلث‭ ‬الحربية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يرصدها‭ ‬الرادار‭ ‬والنعجة‭ ‬دولي‭ ‬وهيفاء‭ ‬وهبي‭! ‬وأصبحت‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬أفٍ‭ ‬على‭ ‬العلم‭…‬‮»‬‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬سوقًا‭ ‬مفتوحة‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬فيه‭ ‬قابل‭ ‬للبيع‭ ‬والشراء،‭ ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬‮«‬المتاجر‮»‬‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬موقع‭ ‬على‭ ‬الإنترنت‭ ‬اسمه‭ ‬إيباي‭ ‬eBay‭  ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬موقع‭ ‬دلالة‭ ‬ومزادات‭ ‬يعرض‭ ‬فيه‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬بضعة‭ ‬ملايين‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السلع‭ ‬يوميًا،‭ ‬وكانت‭ ‬آخر‭ ‬‮«‬سلعة‮»‬‭ ‬شدت‭ ‬انتباه‭ ‬الملايين‭ ‬تقول‭ ‬مواصفاتها‭: ‬فتاة‭ ‬أوروبية‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬والعشرين‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬عائلة‭ ‬معروفة‭ ‬وتقدر‭ ‬ثروتها‭ ‬الخاصة‭ ‬بـ23‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬زوج‭ ‬مواصفاته‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭ (‬لن‭ ‬أخوض‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يتوهم‭ ‬قارئ‭ ‬أنه‭ ‬الفارس‭ ‬المنتظر‭ ‬ويحسب‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬الجعافر‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬خاطبة‭ ‬تتلقى‭ ‬عمولات‭ ‬من‭ ‬مليونيرات‭ ‬أوروبا‭ ‬البائرات‭). ‬وموقع‭ ‬المزادات‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬لا‭ ‬ينضحك‭ ‬عليه‮»‬‭.. ‬يعني‭ ‬لا‭ ‬ينشر‭ ‬إعلانًا‭ ‬قبل‭ ‬التحري‭ ‬والتأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬صاحبه‭ ‬أو‭ ‬صاحبته‭ ‬شخص‭ ‬حقيقي‭ ‬وجاد‭ ‬وأن‭ ‬البضاعة‭ ‬المعروضة‭ ‬للبيع‭ ‬أيضا‭ ‬حقيقية‭!! ‬وبالتأكيد‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬بملايينها‭ ‬تلك‭ ‬ستجد‭ ‬‮«‬بدل‭ ‬العريس‭ ‬ألف‮»‬،‭ ‬وستظل‭ ‬تتسلى‭ ‬بهم‭ ‬الواحد‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬وقد‭ ‬‮«‬تمسك‮»‬‭ ‬في‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬أي‭ ‬تحتفظ‭ ‬به‭ ‬عندما‭ ‬تحس‭ ‬بأن‭ ‬ملايينها‭ ‬وشبابها‭ ‬في‭ ‬خطر،‭ ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬نجاح‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬ورواج‭ ‬سلعه‭ ‬إلى‭ ‬تشجيع‭ ‬مواقع‭ ‬للمزادات‭ ‬متخصصة،‭ ‬كان‭ ‬آخرها‭ ‬موقع‭ ‬تم‭ ‬تدشينه‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬يوم‭ ‬23‭ ‬فبراير‭ ‬الماضي‭ ‬واسمه‭ ‬Not‭ ‬Included‭.‬com‭ ‬ويقف‭ ‬وراءه‭ ‬شخص‭ ‬اسمه‭ ‬جون‭ ‬غوانزاليس،‭ ‬ويتخصص‭ ‬هذا‭ ‬الموقع‭ ‬في‭ ‬بيع‭ ‬بويضات‭ ‬نسائية‭ ‬للراغبات‭ ‬في‭ ‬الحمل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬معاناتهن‭ ‬من‭ ‬مشكلات‭ ‬في‭ ‬المبايض،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬افتتح‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭ ‬موقعًا‭ ‬لبيع‭ ‬الحيوانات‭ ‬المنوية‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬ويتعهد‭ ‬‮«‬للمتبرعين‭ ‬والمتبرعات‮»‬‭ ‬بأنه‭ ‬لن‭ ‬يكشف‭ ‬هوياتهم‭. ‬طبعًا‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬شخص‭ ‬عاقل‭ ‬يتبرع‭ ‬بلا‭ ‬مقابل‭ ‬لتاجر‭ ‬بحيوانات‭ ‬منوية‭ ‬أو‭ ‬بويضات‭ ‬ولكن‭ ‬المسألة‭ ‬تجارة‭ ‬في‭ ‬تجارة،‭ ‬وزبائن‭ ‬هذه‭ ‬السلع‭ ‬أشخاص‭ ‬بالضرورة‭ ‬لا‭ ‬‮«‬يعانون‮»‬‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وازع‭ ‬ديني‭ ‬أو‭ ‬أخلاقي‭!! ‬ماذا‭ ‬تعرف‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تقبل‭ ‬أن‭ ‬تحبل‭ ‬بجنين‭ ‬تم‭ ‬شراء‭ ‬عناصره‭ ‬من‭ ‬بقالة‭ ‬إلكترونية‭ ‬عن‭ ‬الأمراض‭ ‬الوراثية‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬صاحب‭ ‬الحيوان‭ ‬المنوي‭ ‬أو‭ ‬البويضة‭! ‬ومسألة‭ ‬أخرى‭ ‬وهي‭ ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬العاهرة‭ ‬المزمنة‭ ‬ترفض‭ ‬أن‭ ‬تتعرض‭ ‬للاغتصاب‭ ‬لأنه‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬انتهاك‭ ‬الخصوصية،‭ ‬ولكن‭ ‬أوليست‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تضع‭ ‬في‭ ‬رحمها‭ ‬حيوانًا‭ ‬منويًا‭ ‬لرجل‭ ‬ليس‭ ‬زوجها‭ ‬تتعرض‭ ‬لنوع‭ ‬بشع‭ ‬من‭ ‬الاغتصاب‭ ‬الطوعي؟‭ ‬المسألة‭ ‬برمتها‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬ميل‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العولمة‭ ‬نحو‭ ‬التكويش‭ ‬والملكية‭ ‬الفردية‭.. ‬والأطفال‭ ‬سواء‭ ‬أتوا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬شراء‭ ‬مكوناتهم،‭ ‬أو‭ ‬شرائهم‭ ‬جاهزين‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬فقيرة‭ ‬مثل‭ ‬كمبوديا‭ ‬ورومانيا‭ ‬صاروا‭ ‬مجرد‭ ‬سلعة‭. ‬ويا‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يواصل‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الحالي‭ ‬جو‭ ‬بايدن‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬أسلافه‭ ‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬بالإصلاحات‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬الحكم‭ ‬والإدارة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬يقال‭ ‬لنا‭ ‬فيها‭: ‬عندكم‭ ‬فائض‭ ‬أطفال‭ ‬للتصدير‭ ‬وقوانين‭ ‬التجارة‭ ‬الحرة‭ ‬تلزمكم‭ ‬ببيعهم‭ ‬للراغبين‭ ‬في‭ ‬الشراء‭! ‬يعني‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬الإصلاح‮»‬‭ ‬سنظل‭ ‬كما‭ ‬نحن‭ ‬نلد‭ ‬للموت‭ ‬ونعمر‭ ‬للخراب‭!‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى