رأي في الحدث

جعفــرعبـاس : عن حساب العمر

كنت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬ضيفا‭ ‬على‭ ‬المذيع‭ ‬السعودي‭ ‬المهذب‭ ‬مساعد‭ ‬الخميس‭ ‬ومعه‭ ‬مذيعة‭ ‬حسناء،‭ ‬نسيت‭ ‬اسمها،‭ ‬في‭ ‬بث‭ ‬حي‭/ ‬مباشر‭ ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬إيه‭ ‬آر‭ ‬تي،‭ ‬كانت‭ ‬المذيعة‭ ‬مشغولة‭ ‬بنقل‭ ‬شعرها‭ ‬الطويل‭ ‬من‭ ‬خدها‭ ‬الأيمن‭ ‬إلى‭ ‬الأيسر‭ ‬بهزة‭ ‬رأس‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬دلال‭ ‬وغنج،‭ ‬وتوزع‭ ‬ابتساماتها‭ ‬البلاستيكية‭ ‬على‭ ‬الكاميرات،‭ ‬ثم‭ ‬تسألني‭ ‬سؤالا‭ ‬ركيكا‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭.. ‬كانت‭ ‬المسكينة‭ ‬معذورة،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬سمعت‭ ‬بي‭ ‬أو‭ ‬قرأت‭ ‬لي،‭ ‬بل‭ ‬أشك‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬قرأت‭ ‬سطرا‭ ‬واحدا‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬غادرت‭ ‬كرسي‭ ‬المدرسة،‭ (‬وهذه‭ ‬علة‭ ‬تلمسها‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬مذيعي‭ ‬ومذيعات‭ ‬الفضائيات‭ ‬العربية‭ ‬الركيكة‭ ‬التي‭ ‬يهمها‭ ‬فقط‭ ‬حلاوة‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬يظهرون‭ ‬على‭ ‬شاشاتها‭) ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الطامة‭ ‬عندما‭ ‬سألتني‭ ‬عن‭ ‬عمري‭.. ‬هكذا‭.. ‬بلا‭ ‬مقدمات،‭ ‬فقلت‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬الهواء‭ ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬حقها‭ ‬أن‭ ‬تسألني‭ ‬عن‭ ‬عمري‭ ‬لأنني‭ ‬لا‭ ‬أجلس‭ ‬معها‭ ‬طالبا‭ ‬منها‭ ‬العلاج،‭ ‬أو‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬وظيفة‭ ‬في‭ ‬إيه‭ ‬آر‭ ‬تي،‭ ‬أو‭ ‬طالبا‭ ‬يدها‭ ‬أو‭ ‬يد‭ ‬إحدى‭ ‬قريباتها،‭ ‬وإنها‭ ‬ليست‭ ‬طبيبة‭ ‬أمثل‭ ‬أمامها‭ ‬طلبا‭ ‬للعلاج،‭ ‬أو‭ ‬قاضية‭ ‬أو‭ ‬وكيل‭ ‬نيابة‭ ‬يخضعني‭ ‬للاستجواب،‭ ‬و«تبكمت‮»‬‭ ‬المسكينة،‭ ‬وجحظت‭ ‬عينا‭ ‬مساعد‭ ‬الخميس‭ ‬لبضع‭ ‬ثوان‭ ‬ثم‭ ‬انفجر‭ ‬ضاحكا‭ ‬وقطع‭ ‬المخرج‭ ‬الإرسال‭ ‬لـ«خلل‭ ‬فني‭ ‬طارئ‮»‬‭.. ‬وطالت‭ ‬مدة‭ ‬الخلل‭ ‬الفني‭ ‬لأن‭ ‬المصورين‭ ‬والطاقم‭ ‬الفني‭ ‬غرقوا‭ ‬في‭ ‬الضحك،‭ ‬بينما‭ ‬ست‭ ‬الحسن‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬الحرج،‭ ‬وخلال‭ ‬الاستراحة‭ ‬المفتعلة‭ ‬لمعالجة‭ ‬الخلل‭ ‬الفني‭ ‬قلت‭ ‬للأستاذ‭ ‬الخميس‭: ‬لن‭ ‬أجيب‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬سؤال‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬البلهاء،‭ ‬وهكذا‭ ‬اتفقنا‭ ‬على‭ ‬انسحابها‭ ‬من‭ ‬البرنامج‭ ‬الحواري‭.‬

وبالمناسبة‭ ‬فإنني‭ ‬لست‭ ‬ممن‭ ‬يعيبون‭ ‬على‭ ‬النساء‭ ‬أنهن‭ ‬لا‭ ‬يفصحن‭ ‬عن‭ ‬أعمارهن‭ ‬الحقيقية،‭ ‬فالمرأة‭ ‬أي‭ ‬امرأة‭ ‬ليست‭ ‬ملزمة‭ ‬أو‭ ‬مطالبة‭ ‬بالإفصاح‭ ‬عن‭ ‬عمرها‭ ‬لغير‭ ‬الطبيب‭ ‬أو‭ ‬زوجها‭ ‬أو‭ ‬الشرطة‭ ‬أو‭ ‬القضاء‭.. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬سؤال‭ ‬الإنسان،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬ذكرا‭ ‬أو‭ ‬أنثى،‭ ‬عن‭ ‬عمره‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الحشرية‭ (‬حشر‭ ‬الأنف‭ ‬في‭ ‬الخصوصيات‭). ‬نعم‭ ‬حتى‭ ‬الجهات‭ ‬الرسمية‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تسأل‭ ‬عن‭ ‬أعمار‭ ‬الناس،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بمصلحة‭ ‬من‭ ‬يتلقى‭ ‬السؤال‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تقض‭ ‬القوانين‭ ‬واللوائح‭ ‬بذلك،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬كلام‭ ‬نظري‮»‬،‭ ‬فعندنا‭ ‬قد‭ ‬يذهب‭ ‬إنسان‭ ‬بطفل‭ ‬لتسجيله‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية‭ ‬ويكتشفون‭ ‬أن‭ ‬عمره‭ ‬8‭ ‬سنوات‭ ‬فيقولون‭ ‬له‭: ‬بره‭.. ‬هذا‭ ‬محتاج‭ ‬لعروس‭ ‬مو‭ ‬تعليم‭! ‬وأذكر‭ ‬كيف‭ ‬هللت‭ ‬بريطانيا‭ ‬كلها‭ ‬عدة‭ ‬أسابيع‭ ‬لكهل‭ ‬في‭ ‬التسعين‭ ‬نال‭ ‬البكالوريوس،‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نسمح‭ ‬لمن‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الثلاثين‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬طالبا‭ ‬جامعيا‭ ‬‮«‬نظاميا‮»‬‭.. ‬أما‭ ‬لو‭ ‬طلب‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬السبعين‭ ‬التسجيل‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬جامعاتنا‭ ‬فسوف‭ ‬يأتيه‭ ‬الرد‭: ‬روح‭ ‬الروضة‭ ‬يا‭ ‬شاطر،‭ ‬يا‭ ‬قليل‭ ‬الحياء‭! ‬ما‭ ‬الحل‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬كهذا؟‭ ‬كلنا‭ ‬نعرف‭ ‬الحل‭ ‬المعمول‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬بلداننا،‭ ‬فلو‭ ‬شئت‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬بأن‭ ‬عمرك‭ ‬47‭ ‬سنة‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬74‭ ‬سنة‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬ممكن‭ ‬بموجب‭ ‬أوراق‭ ‬رسمية‭ ‬غير‭ ‬مزورة‭.. ‬ومن‭ ‬زاوية‭ ‬شخصية‭ ‬فإنني‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬العمر‭ ‬من‭ ‬الزاوية‭ ‬النفسية‭: ‬لا‭ ‬تحبط‭ ‬نفسك‭ ‬بحساب‭ ‬سنوات‭ ‬عمرك‭ ‬وتوسوس‭: ‬خلاص‭ ‬راحت‭ ‬علينا‭.. ‬بل‭ ‬اقنع‭ ‬نفسك‭ ‬أنك‭ ‬أصغر‭ ‬سنا‭ ‬مما‭ ‬تقوله‭ ‬شهادة‭ ‬ميلادك،‭ ‬ولا‭ ‬تنظر‭ ‬لعمرك‭ ‬إلا‭ ‬باعتباره‭ ‬مجرد‭ ‬رقم،‭ ‬وهذه‭ ‬ليست‭ ‬دعوة‭ ‬للتصابي‭.. ‬فلست‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬صبغ‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬لبس‭ ‬الباروكة،‭ ‬ولست‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬استبدال‭ ‬أم‭ ‬العيال‭ ‬بموديل‭ ‬جديد،‭ ‬وكأنما‭ ‬ذلك‭ ‬سيؤدي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬شحن‭ ‬بطاريتك‭ ‬يا‭ ‬عجوز‭ ‬يا‭ ‬مكعكع‮»‬،‭ ‬ويرد‭ ‬إليك‭ ‬الشباب‭ ‬‮«‬بالفعل‮»‬‭.. ‬بل‭ ‬أقصد‭ ‬أن‭ ‬ترفع‭ ‬روحك‭ ‬المعنوية‭ ‬بأن‭ ‬تقنع‭ ‬نفسك‭ ‬بأنك‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬ممتلئا‭ ‬طاقة‭ ‬وحيوية‭.. ‬وأنك‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬‮«‬اللي‭ ‬فيها‭ ‬بركة‮»‬‭.. ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تلقم‭ ‬الحشريين‭ ‬حجرا،‭ ‬فمنهم‭ ‬المنافق‭ ‬الذي‭ ‬يحسب‭ ‬أن‭ ‬عمرك‭ ‬مائة‭ ‬سنة‭ ‬وعندما‭ ‬تقول‭ ‬له‭ ‬صادقا‭ ‬إنك‭ ‬تبلغ‭ ‬الخمسين‭ ‬يقول‭: ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬حسبت‭ ‬عمرك‭ ‬ثلاثين‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى