رأي في الحدث

جعفـر عبـاس: وفيها من اللاجئين صنوف

لندن‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مجرد‭ ‬وجهة‭ ‬سياحية‭ ‬للعرب‭ ‬بل‭ ‬صارت‭ ‬ملاذا‭ ‬آمنا‭ ‬ووطنا‭ ‬بديلا‭ ‬للآلاف‭ ‬منهم،‭ ‬وفي‭ ‬زيارتي‭ ‬الأولى‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كنت‭ ‬إذا‭ ‬سمعت‭ ‬شخصين‭ ‬يتكلمان‭ ‬العربية‭ ‬اندفع‭ ‬نحوهما‭ ‬و«بالأحضان‮»‬،‭ ‬وإذا‭ ‬قابلت‭ ‬سودانيا‭ ‬أكون‭ ‬كمن‭ ‬عثر‭ ‬على‭ ‬كنوز‭ ‬الدنيا،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وقتها‭ ‬إلا‭ ‬طالب‭ ‬علم،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬العرب‭ ‬يقصدون‭ ‬غير‭ ‬مصر‭ ‬ولبنان‭ ‬للسياحة؛‭ ‬فقط‭ ‬قلة‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬اليسار‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬دروب‭ ‬بريطانيا،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فالعرب‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الهم‭ ‬على‭ ‬القلب،‭ ‬وهناك‭ ‬مناطق‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬تعرضت‭ ‬للتعريب‭ ‬الشامل،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬السياح‭ ‬العرب‭ ‬يغشونها‭ ‬بانتظام‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬المدينة‭ ‬أصبحت‭ ‬ملاذا‭ ‬لطالبي‭ ‬اللجوء‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي،‭ ‬ومن‭ ‬فرط‭ ‬كثرتهم‭ ‬فإنك‭ ‬قد‭ ‬تلتقي‭ ‬فيها‭ ‬بعربي‭ ‬يقيم‭ ‬فيها‭ ‬منذ‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬الإنجليزية‭ ‬سوى‭ ‬ما‭ ‬يقابل‭ ‬‮«‬صباح‭ ‬الخير‭ ‬وشكرا‮»‬،‭ ‬ولهذا‭ ‬راجت‭ ‬فيها‭ ‬صنعة‭ ‬الترجمة‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬مبعوث‭ ‬هناك‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يكتب‭ ‬بحثا‭ ‬أو‭ ‬رسالة‭ ‬بالانجليزية‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬مترجم‭ ‬محترف‭ ‬كيف‭ ‬يساعده‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المهمة،‭ ‬وينال‭ ‬الدرجة‭ ‬الأكاديمية‭ ‬المنشودة‭ ‬بعد‭ ‬طويل‭ ‬إقامة‭ ‬هناك‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬‮«‬أطرش‮»‬‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ (‬كذاك‭ ‬الذي‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬وسأله‭ ‬صديق‭ ‬عن‭ ‬الضفدعة‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬فقال‭ ‬بعد‭ ‬طويل‭ ‬تفكير‭: ‬فاروق،‭ ‬ويعني‭ ‬‮«‬فروغ‭ ‬frog‮»‬‭ ‬وبما‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬الإنجليزية‭ ‬بحروف‭ ‬عربية‭ ‬فقد‭ ‬جعل‭ ‬الفروغ‭ ‬فاروقا‭).‬

وما‭ ‬يثير‭ ‬الحنق‭ ‬ويفتق‭ ‬الرئة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تسمع‭ ‬من‭ ‬فازوا‭ ‬بحق‭ ‬اللجوء‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬استحقاق‭ ‬أي‭ ‬بالاستهبال‭ ‬وهم‭ ‬يكيلون‭ ‬السباب‭ ‬للبريطانيين‭ ‬أولاد‭ ‬الـ‭….‬،‭ ‬ويتهمونهم‭ ‬بالفسق‭ ‬والفجور‭ ‬والانحلال‭ ‬الأخلاقي،‭ ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬لهؤلاء‭ ‬حنانيكم‭ ‬فالإقامة‭ ‬هنا‭ ‬ليست‭ ‬إجبارية‭.. ‬قاعدين‭ ‬ليه‭ ‬ما‭ ‬تقوموا‭ ‬تروحوا،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬آلاف‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬عرب‭ ‬بريطانيا‭ ‬أقاموا‭ ‬فيه‭ ‬طويل‭ ‬السنين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشهدوا‭ ‬عرضا‭ ‬مسرحيا‭ ‬أو‭ ‬يزوروا‭ ‬متحفا‭ ‬أو‭ ‬يشهدوا‭ ‬ندوة‭ ‬أو‭ ‬محاضرة،‭ ‬ثم‭ ‬تسمع‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬يتباهى‭ ‬بقدراته‭ ‬الخارقة‭ ‬على‭ ‬الضحك‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬المؤسسي‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬مسكن‭ ‬مجاني‭ ‬ومعونة‭ ‬مالية‭ ‬شهرية‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬استحقاق،‭ ‬وأذكر‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬سأل‭ ‬زميلا‭ ‬عربيا‭ ‬في‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬عن‭ ‬راتبه‭ ‬الشهري‭ ‬وعندما‭ ‬تلقى‭ ‬الإجابة‭ ‬علت‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬شماتة‭ ‬وقال‭: ‬جلالة‭ ‬الملكة‭ ‬تعطيني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬وأنا‭ ‬جالس‭ ‬في‭ ‬بيتي،‭ ‬وأسوأ‭ ‬حالا‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬تلك‭ ‬الغربان‭ ‬التي‭ ‬دهنت‭ ‬ريشها‭ ‬باللون‭ ‬الأبيض،‭ ‬ويحسبون‭ ‬أن‭ ‬الاندغام‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬البريطاني‭ ‬يتطلب‭ ‬وشم‭ ‬الجلد‭ ‬وتثبيت‭ ‬القطع‭ ‬المعدنية‭ ‬في‭ ‬الأنف‭ ‬والأذن‭ ‬والحنجرة،‭ ‬ويهيمون‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬والحانات‭ ‬وهم‭ ‬يتلفظون‭ ‬بمفردات‭ ‬التقطوها‭ ‬من‭ ‬البلاعات‭ ‬والمجارير‭.‬

ولكن‭ ‬مقابل‭ ‬هؤلاء‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬قاتل‭ ‬ويقاتل‭ ‬بالناب‭ ‬والظفر‭ ‬للاستزادة‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والمعارف‭ ‬والخبرات‭ ‬فصار‭ ‬لهم‭ ‬شأن‭ ‬وأيّ‭ ‬شأن،‭ ‬فبعض‭ ‬خيرة‭ ‬علماء‭ ‬وخبراء‭ ‬بريطانيا‭ ‬ليسوا‭ ‬ذوي‭ ‬أصول‭ ‬عربية‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬‮«‬عرب‮»‬‭ ‬كاملو‭ ‬الدسم،‭ ‬واحد‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬أنتجوا‭ ‬لقاح‭ ‬استرا‭ ‬زينكا‭ ‬المضاد‭ ‬للكورونا‭ ‬وأشرفت‭ ‬عليه‭ ‬جامعة‭ ‬اوكسفورد‭ ‬سوداني،‭ ‬وهناك‭ ‬آلاف‭ ‬الأطباء‭ ‬والعلماء‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرفق‭ ‬أكاديمي‭ ‬وبحثي‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬سفحوا‭ ‬العرق‭ ‬والدموع‭ ‬كثيرا‭ ‬حتى‭ ‬بلغوا‭ ‬تلك‭ ‬المراتب‭.‬

لا‭ ‬يسلم‭ ‬لاجئ‭ ‬من‭ ‬الانجراف‭ ‬أو‭ ‬الانحراف‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬إلا‭ ‬بمجاهدة‭ ‬النفس‭ ‬والمكابدة،‭ ‬ولا‭ ‬يغرف‭ ‬من‭ ‬معينها‭ ‬المعرفي‭ ‬والعلمي‭ ‬الخصب‭ ‬إلا‭ ‬ذو‭ ‬نفس‭ ‬طموحة‭ ‬وثّابة،‭ ‬تصبو‭ ‬إلى‭ ‬الارتقاء‭ ‬بالذات،‭ ‬وليس‭ ‬استخفافا‭ ‬بالأوطان‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬الروائي‭ ‬المعروف‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليحقق‭ ‬ما‭ ‬حققه‭ ‬من‭ ‬مجد‭ ‬أدبي‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬السودان‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا،‭ ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬الطقس‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬يولد‭ ‬الإبداع‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬اندمج‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬الثقافي‭ ‬فيها‭ ‬ونهل‭ ‬من‭ ‬آدابها‭ ‬وهضم‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬ذاته‭ ‬وهويته،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬مجدي‭ ‬يعقوب‭ ‬أشهر‭ ‬جراح‭ ‬قلب‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬ليصبح‭ ‬علما‭ ‬في‭ ‬رأسه‭ ‬نار‭ ‬ونور‭ ‬لو‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وما‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬لأن‭ ‬بريطانيا‭ ‬فتحت‭ ‬له‭ ‬وسخرت‭ ‬له‭ ‬أدوات‭ ‬التطور‭ ‬المهني،‭ ‬وحفّزته‭ ‬وكافأته‭ ‬على‭ ‬تجويد‭ ‬العمل،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يتقاعد‭ ‬كرمته‭ ‬ملكة‭ ‬بريطانيا‭ ‬بأن‭ ‬منحته‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬سير‭/ ‬فارس‮»‬،‭ ‬والألقاب‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬ليست‭ ‬مجانية‭ ‬كما‭ ‬قطع‭ ‬القماش‭ ‬والنحاس‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬توزيعها‭ ‬عشوائيا‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬بل‭ ‬يعتبرها‭ ‬المجتمع‭ ‬عالية‭ ‬القيمة‭ ‬المعنوية‭ ‬ويحظى‭ ‬حاملها‭ ‬بالاحترام‭ ‬أينما‭ ‬سار‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى