رأي في الحدث

د عبدالله باحجاج :قمة الرياض «42».. فتح الأبواب الخليجية الستة للاتحاد الكونفيدرالي

(سيسجل لقمة الرياض أنها ودعت الحساسية السياسية بين دول المنظومة الست، فلم يعد هاجسا خليجيا أن تكون الرياض مقرا دائما للقمم الخليجية)

قمة تاريخية، قمة مفصلية، مثل هذه المسميات تنطبق دون مبالغة على قمة الرياض الخليجية «42» التي اختتمت مساء أمس الأول، فرغم أنها لم تعلن رسميا الانتقال إلى الاتحاد الخليجي، وأكدت صراحة على أهمية استكمال الوحدة الاقتصادية، ووضع برنامج تنفيذي لها حتى عام 2025، وكذلك، تأكيدها على استكمال منظومة التكامل الأمنية والعسكرية.. إلا أنها فعليا، دشنت الانطلاقة الفعلية للاتحاد الخليجي بين الدول الست كلها، وهذا ما كنت قد استشرفته في مقالي السابق المعنون باسم «الثنائية العمانية السعودية.. صيرورة للاتحاد الخليجي» وأشرت فيه حرفيا «إن الأيام القليلة المقبلة تحمل أنباء سارة لكل أهل الخليج دون استثناء» ومفاجأتها، تكمن في التحرر من الحساسيات السياسية التي كانت تعرقل الوحدة الاقتصادية الخليجية، وتجعل الاتحاد من المستحيلات.

لا يمكنني أن أنظر لنتائج قمة الرياض الخليجية «42» بمعزل عن قمة العلا الخليجية «41» في يناير2021، فقمة العلا، قد أسست عهدا جديدا للدول الست، قلت عنه في حينها، إنه ينضج كل القناعات السياسية للانتقال للاتحاد الخليجي، وإن الوحدة الاقتصادية قد تجاوزتها الأحداث والتطورات السياسية الخليجية الخليجية، والخليجية الإقليمية، والخليجية العالمية، لكنها حتمية للاتحاد الخليجي.

بمعنى، أنه لا يمكن الانتقال للاتحاد دون استحقاقات الوحدة الاقتصادية، فالوحدة الاقتصادية تعني استكمال متطلبات الاتحاد الجمركي، والسوق الخليجية المشتركة، ومنح مواطني الدول الست الحرية في العمل والاستثمار والمساواة في تلقي التعليم والرعاية الصحية، أي تحقيق المواطنة الخليجية، وقد حددت قمة العلا عام 2024 موعدا لاستكمال تلكم البنيات الأساسية للوحدة الاقتصادية.

وكنت انتظر قمة الرياض بفارغ الصبر، لأنها ستضع النقاط فوق الكثير من الحروف، لعل أبرزها، هل كانت قمة العلا ردة فعل أم صناعة فعل لمستقبل خليجي معاصر؟ وهل ستكون الثنائيات بديلا عن العمل الجماعي أم تأطيرا له؟ وقد كانت القوة التي تقف وراء نتائج قمة الرياض «42» التاريخية، هي من نتاج قمة العلا التأسيسية، وتكمن هذه القوة في انبثاق فكر سياسي خليجي غير مسبوق، وغير متوقع للشعوب الخليجية، ويمكن الاستدلال على هذا الوعي، بطبيعة الإرادة السياسية لقمة العلا، ويمكنني إبرازها من 3 نواح جوهرية هي:

  • المصالحة مع الدوحة، وعودة العلاقات الخليجية الخليجية.
  • بروز إرادة سياسية تمثل ضمانة لهذه المصالحة.
  • الإقرار بأهمية توحيد جهود الدول الست لمواجهة التحديات التي تحيط بالدول الست.

ورغم أن قمة العلا لم تحدد طبيعة هذه التحديات، إلا أن نتائج قمة الرياض قد خرج منها ما يفيد بوجود الوعي السياسي بطبيعتها، وكل ما خرجت به قمة الرياض من نتائج، فهي تدشن عمليا الانتقال الفوري للاتحاد الخليجي، وفي شكله الكونفدرالي دون تسمية الأشياء بمسمياتها السياسية، وهنا ينبغي أن أثبت ذلك، وهي ما تتجلى في نتائج القمة التالية:

أولا: اعتبار أي اعتداء/ هجوم على دولة من الدول الست هو اعتداء على الكل، تفعيلا للمادة الثانية من اتفاقية الدفاع المشترك، وهذه رسالة إقليمية مفادها أن الدول الست تقف الان في خندق واحد لمواجهة تحدياتها الأمنية والعسكرية، وهذا التفعيل له ما يبرره زمنيا في ضوء التهديدات في حالة فشل المحادثات بشأن الملف النووي الإيراني، كما أنها أداة ردع لتهديدات الجماعات المسلحة، فالجغرافيا السياسية للدول الست ستكون نقطة انطلاقة مواجهتها مهما كان مصدرها الإقليمي.

كما أرى في تفعيل تلك المادة الآن، بأنها تمثل السياج الأمني والعسكري للمصالح الاقتصادية الخليجية الخليجية الجديدة من جهة، والضمانة لمرحلة سياسية خليجية جديدة، تسعى فيها الدول الست إلى حل الأزمات الإقليمية القائمة الآن، وتأسيس مسار سلمي لدور خليجي معاصر، لذلك سيكون الأمن الخليجي الجماعي مسؤولية جماعية، إذ قد نشهد جيشا خليجيا موحدا بعقيدة دفاعية، يفتح من أجله استيعاب أعداد الباحثين.

ثانيا: توحيد المواقف السياسية للدول الست، وهذا يعبر دلالة وماهية عن الانتقال لمرحلة الاتحاد الفعلي، فتوحيد المواقف السياسية من الأزمات الإقليمية والعالمية، يعني أن الدول الست قد وصلت من الاندماج ما يجعل مواقفها واحدة دون أن تثار خلافات فيما بينها.

ثالثا: عقد الشراكات مع الدول الكبرى مع المنظومة الخليجية، وليس مع كل دولة على انفراد، كما كان يحدث سابقا، حيث كانت الاتفاقيات مع الدول الكبرى تعقد بصورة ثنائية، كالاتفاقيات الثنائية بين واشنطن مع الدول الست، فهل سيعاد النظر في الاتفاقيات الثنائية مع الدول الكبرى، مما قد يقوي من تفاوضها الجماعي الخليجي، ويعزز منافعها الاقتصادية، ويجعل تأثيرها السياسي ناجعا ومعتدا على الصعيدين الإقليمي والعالمي.

وهنا، أرصد في هذا التحول، إرادة سياسية قوية للابتعاد الخليجي عن تبعية التحالفات الأمريكية خاصة، والغربية عامة، والتفكير فيما يعزز روابطها أولا، والانطلاق للعالم الخارجي من قوة الجماعة، حيث سيكون صوتها مسموعا كجماعة، على عكس الاستفراد بها.

رابعا: أهمية العمل الاجتماعي لمواجهة التحديات الجماعية، وهذا يعني أن هناك رؤية جماعية للدول الست لهذه التحديات، وقد توقفت عند هذه النتيجة لقمة الرياض كثيرا، وأمعنت في أعماق التحديات الاجتماعية الجماعية، وتساءلت، كيف سينظر لهذه التحديات ؟ ليس من أجندات القمم تحديدها، وهي تترك للمؤسسات الخليجية، ونخشى هنا أن تتركز على التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية فقط، وهذه تحديات تقليدية، غير أن هناك تحديات حديثة، وأكثر خطورة، وهذا ما سنتناولها في مقالي المقبل المؤجل، وربما يكون تأجيله غير المخطط له، يأتي لخدمة نسق التطورات المتلاحقة في الخليج.

وكما قلت في مقالي السابق، إن هذه التحولات التاريخية في الخليج العربي، ما كان لها أن تحدث لولا حالة الثقة المعاصرة بين مسقط والرياض على وجه الخصوص، وفتح البلدين صفحة جديدة في علاقاتهما الشاملة من منظور براجماتي، وعلى أرضية اقتصادية ذات نفع مشترك، يوظف البعد الجيوستراتيجي العماني لصالح الاقتصاد الخليجي، وهذا ما تؤسسه الشراكة التكاملية مسقط والرياض، ومسقط والدوحة، وقد تجلت في التوقيع على مشاريع ضخمة، تدمج الاقتصاديات بمنافع استراتيجية وروابط عسكرية وأمنية عميقة، تربط مواقفهما السياسية بالمصير الاقتصادي، والمستقبل الاقتصادي المشترك، بالأمن الثنائي المشترك، ونختلف هنا مع التحليلات التي ظهرت في ساعة متأخرة من ليلة أمس، ترى أن الأمن الجماعي أولا، والمصالح الاقتصادية ثانيا.

فالتجربة العمانية السعودية الحديثة، بنيت انطلاقتها على المصالح الاقتصادية التكاملية أولا، وبالتالي تظهر الحاجة الأمنية والعسكرية اللاحقة إلى حمايتها، وحجم المصالح الاقتصادية الخليجية الجماعية الحديثة، تقف الآن وراء تأكيد قمة الرياض على أهمية استكمال المنظومتين الأمنية والعسكرية، وتغليب منطق الأمن الجماعي، بعد أن نجحت الدول الست في إقامة بنيات تحتية مهمة للمنظومتين الأمنية والعسكرية، هي مجلس الدفاع المشترك، واللجنة العليا المشتركة، والقيادة العسكرية الموحدة للدول الست، وهنا يتداخل الاقتصاد الجماعي مع الأمن الجماعي، ونجده هنا، في نتيجة أخرى من أهم نتائج قمة الرياض، وهي:

اتفاق قادة الخليج على إقامة الهيئة الخليجية لسكة الحديد، فالقطار الخليجي دواعيه متعددة، اقتصادية واجتماعية وأمنية وعسكرية، فمقتضيات الأمن الجماعي، يحتم وجود سكة حديد تربط الدول الست لضرورة نقل الجنود والعتاد – أي الدعم اللوجستي – للجغرافيا الخليجية المهددة بتحديات داخلية وخارجية، كما هي كذلك لدواعي تعدد النقل اللوجستي بين الموانئ والمناطق الاقتصادية والعواصم الخليجية.

هل آن الأوان بعد قمة الرياض، دمج الثنائيات الخليجية الخليجية في العمل الجماعي الخليجي؟ أرى ذلك أنه سيصب في مصلحة التفكير الجماعي، ووحدة المواجهة، وسرعة الاستجابة، وحل إشكاليات التعارض والمنافسة السلبية على الصعيد الاقتصادي، فلو نظرنا للرياض مثلا، فسنجد أنها قد أقامت مع كل دولة خليجية مجلسا تنسيقيا ثنائيا، فمن المصلحة الجماعية، دمجها بعد نتائج القمة، وجعلها امّا في كيان خليجي واحد مستقل، أو أن تدخل ضمن مؤسسات تطوير المنظومة الخليجية، وأهمية الدمج تكمن في التنسيق الجماعي في المشاريع الاقتصادية الجماعية، وضمانة عدم تضاربها – أي المشاريع – مع نظيراتها الخليجية الأخرى، حتى لا يدخل الخليج مجددا في منافسات ضارة.

وأخيرا، أشير إلى أن قمة الرياض الخليجية «42» سيسجل لها تاريخيا كذلك، أنها قد ودعت الحساسية السياسية بين دول المنظومة الست، فلم يعد هاجسا خليجيا أن تكون الرياض مقرا دائما للقمم الخليجية، وكانت قضية المقرات لمؤسسات الوحدة الاقتصادية الخليجية تعتبر من بين الإشكاليات التي كانت تتحطم فوقها مشاريع الوحدة الاقتصادية، عموما، قمة الرياض تودع عقودا ماضية بخلافاتها واختلافاتها بين الدول الست، وتعيد صياغة دور خليجي جديد، مختلف عن الصورة التي رسمت عن بعض وحداتها السياسية منذ عام 2011، وهو الدور السلمي، وتقوم الرياض وابوظبي منذ فترة بالتهيئة اللازمة للمرحلة السلمية.

وقد رصدت ذلك من خلال انفتاح أبوظبي على طهران بصورة علنية، بعد تبني سياسة خارجية جديدة قائمة على تصفير الأعداء، وإجراء الرياض حوارا أمنيا عميق مع طهران، وهكذا تتحدد ملامح المرحلة الخليجية الجديدة.. ويظل الرهانات أن تترجم نتائج قمة الرياض على الأرض، ويلمسها الشعب الخليجي الواحد، والمتوزع على ست جغرافيات سياسية، وهي الآن أقرب للاتحاد أكثر من أي وقت مضى، وليس أمامها من خيار استراتيجي آخر قياسا بحجم التحديات الشاملة التي تواجه الدول الست، وهي تحديات مصيرية ووجودية تبني المستقبل على خمسين سنة المقبلة ليس لضمانة المصالح، كما كانت خلال الخمسين سنة الماضية، وإنما لديمومة وجوديات مادية وفكرية في منطقة الخليج، كما سنرى في المقال المقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى